كيف استقلت أريتريا

 

ذات البني (إرتريا) تجمع العديد من الأجناس البشرية، جاءت إليها القبائل النيلية ذات الاصل الحامي، ثم جاء النزوح من قلب إفريقيا. واكتسبت المنطقة طابعها الخاص عندما هاجرت اليها القبائل البربرية في الفترة من سنة ١٠٠٠ الى ٧٠٠ ق.م. ولقد تواصلت هذه الهجرات على مدى مئات السنين عبر باب المندب وجزيرة دهلك التي لا يفصلها عن الشواطئ اليمنية إلا أميال قليلة. ولعل أقدم القبائل التي هاجرت الى إرتريا هي «الاجاعه» و «حبشات» اللتان فقدتا ديارهما وأراضيهما بعد انهيار سد مأرب. وقد حملت هذه القبائل الى إرتريا اولى مقومات الحضارة: المحراث الذي قادها الى احتراف الزراعة، والابجدية الحبشية التي فتحت أمامها أبواب اللغة والكتابة. وهكذا نشأت في الهضبة الارتيرية مجتمعات زراعية مستقرة ما مهد فيما بعد لظهور مملكة «أكسوم» التي ظهرت في اثيوبيا وامتدت الى اجزاء في إرتريا وبطريقة التفاعل نفسها التي تم بها انتقال الاجناس. انتقل الدين الاسلامي من ارض الهجرة ليجد في إرتريا بيئة ثقافية ملائمة لتعاليمه. ولم ينتشر الاسلام هناك عن طريق السيف ولكن عن طريق التجار المسلمين، وانبعثت بسبب ذلك العديد من الامارات والسلطنات الاسلامية على الساحل، وارتبط ترحيل دهلك ومصوع بالخلافة الاموية ثم الخلافة العباسية من بعدها. وعرفت اوروبا الحديثة طريقها الى سواحل إرتريا في مستهل القرن السادس عشر. فقد رست السفن البرتغالية بقيادة ديغو لويز وقبضت على الممالك الصغيرة التي صادفتها ثم توغلت داخل البلاد. كان البرتغاليون يريدون موطئ قدم يحاصرون منه باب المندب ويؤمنون التجارة عن طريق رأس الرجاء الصالح. وظلوا متشبثين بهذا الموقع حتى تقدم الاسطول التركي ودمر الاسطول البرتغالي في العام ١٥٥٧. وعُرفت الشواطئ الارتيرية في القرون الوسطى ببلاد الطراز الاسلامي، او باقليم باضع، كما عرفت حضنبتها باقليم مدري بحري (اي بلاد الشاطئ). واستمر النفوذ التركي على ساحل البحر الاحمر (بما فيه إرتريا) منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر حتى ١٨٦٦، عندما أحالها سلطان تركيا الى الخديوية المصرية. واصبحت مستعمرة ايطالية في اول كانون الثاني ١٨٩٠، إثر التوسع الايطالي بالفو والاتفاقات مع الحكام المحليين، ومع إمبراطور اثيوبيا والادارة البريطانية التي كانت تحكم السودان. وقد استتب الامر لايطاليا بعد قضائها على الانتفاضات المتفرقة التي دامت ١٥ عاما. لم يكن هناك من ارتسام لما يُسمّى اليوم «الوحدة الوطنية» على الصعيد السياسي قبل المرحلة الاستعمارية. فتاريخ الاراضي الجبلية العالية مرتبط بتاريخ منطقة البحرى الحبشية التي تمتد مباشرة نحو الجنوب، وفي المنطقتين مجموعة لمّا وثقافتها واحدة. اما الاراضي المنخفضة في الغرب، فكانت كانها يدعون الجزء لسلطنة «فونج» في سنار التي يسمى اعتبارها «سودانية». وفي الدلتا، حافظوا الرعاة الغفار على استقلالهم. مرقاً مصوع والمناطق الساحلية المجاورة احتلاها الاتراك بين ١٥٥٧ و ١٨٣٠ - ٤٠ حيث كانت السلطة، في المرحلة الاخيرة، بيد نائب حاكم مصر محمد علي الكبير وخلفاءه. الامبراطور الاثيوبي، يوحنا الرابع، هزم الاتراك في موقعتي، فتخلى هؤلاء عن أطماعهم في

تم استخراج النص التالي من الصورة:

الاداري الداخلية واكتفوا بالمناطق الساحلية حتى انهار امبراطوريتهم في افريقيا كلها ١٨٨٥، وهزيمتهم هذه ، وسببها اساسي انتفاضة المهديين في السودان، وضعت بريطانيا وكانت أداة القوة المهيمنة في البحر الأحمر في حيز من أمرها. فالانجليز لم يبدوا حماساً لاحتلال أرتريا التي بدت لهم فقيرة وغير ذات أهمية كافية، لكنهم في الوقت نفسه خافوا من أن يملأ الفرنسيون هذا الفراغ خاصة وأن هؤلاء يقيمون في أبوعلى مقربة من المنطقة التي ستدعى في ما بعد «جيبوتي». لذلك شجعوا الايطاليين، بدءاً من ١٨٨٩، على القدوم الى المنطقة، لأن ايطالياً كانت، بظروف، قوة اوروبية ثانوية. حاول الايطاليون، انطلاقاً من أرتريا، مد نفوذهم الى اثيوبيا وإخضاعها. لكن الامبراطور الاثيوبي منليك هزمهم في معركة أدوا (١٨٩٦)، فاكتفوا بالمناطق الساحلية التي تمكنوا من احتلالها، من مصوع في السودان وساحل بحري حتى المناطق المسماة وقتها ساحل الصومال الفرنسي. احتل الايطالي (١٨٨٩ - ١٩٤١) أرتريا مميزاً كمنطقة مختلفة ومصيرة، جغرافياً وسياسياً، عن اثيوبيا من جهة وعن السودان من جهة ثانية. لكن بالنسبة الى الدولة الاليزية التي أوجدها (بالمعنى الحديث) الامبراطور منليك، استمرت أرتريا جزءاً من «ارض الأحباش القديمة» على الأقل لجهة السكان المسيحيين فيها. إلا أن أرتريا أصابت تطوراً مغايراً عن المجتمع الفلاحي في اثيوبيا، وذلك تحت تأثير النظام الاداري والاقتصادي الذي نفذه الايطاليون فيها. نظر موسوليني الى أرتريا على انها منطقة يجب ان تكون قاعدة للامبراطورية الشرقية الايطالية التي كان يعمل لانشائها. وعندما اعتقد موسوليني انه اصبح على قاب قوسين من تحقيق هدفه (١٩٣٤)، كانت أرتريا تضم اكثر من نصف المشروع الصناعية الامبراطورية الايطالية وتستثمر ٨٠.٪ من رؤوس الاموال الصناعية التي تستثمرها روما في مشروعها الاستعماري. وفي حين لم يكن في المستعمرة الايطالية (أرتريا) اكثر من اربعة آلاف ايطالي في ١٩٣١، اخذ الايطاليون جنوداً ومدنيين، يضاعفون اعدادهم فيها حتى وصلوا الى ٣٧٠ ألفا (١٩٣٥). وقد شاركت اعداد كبيرة من الارتيريين في غزو اثيوبيا حتى قام الانكليز بهجومهم المضاد (١٩٤١) انطلاقاً من السودان، واحتلوا على أثره كامل «أرتريا الشرقية الايطالية». ومرت سنوات (نحو عقد من الزمن) على طرد الايطاليين التي فيها الارتيريون والاثيوبيون وكأنهم «أشقاء» باعد بينهم الزمن واضطرهم العيش في بلدين مختلفين. لكنهم سرعان ما تيقنوا انهم سيتفقدون طريقتهم في اتجاهين مختلفين عمل الوجود البريطاني على ترسيخها وتنميها. فقد امضى الانكليز ١١ عاماً (١٩٤١ - ٥٢) في أرتريا يعملون على ادخال نمط اداري، وطرق عيش وثقافة سياسية مختلفة تماماً: صحافة، نقابات، برلمان، حياة سياسية فيها قدر من الديمقراطية كانت، آنذاك ، نادرة في افريقيا. بعد هزيمة ايطاليا في الحرب العالمية الثانية، فشلت حكومات الدول الايع: الاتحاد السوفياتي، انكلترا، الولايات المتحدة وفرنسا، في ايجاد حل لمشكلة أرتريا. فكانت الدول الغربية الثلاث ترى وجوب منح اثيوبيا منفذاً الى البحر الاحمر عن طريق الجزء الجنوبي (منطقة عصب) من أرتريا، دافعها في ذلك السيطرة من خلال اثيوبيا الموالية للغرب (في تلك الاثناء) على باب المندب الاستراتيجي، بينما عارض الاتحاد السوفياتي تقسيم أرتريا، وأوصى بعدة الادارة الايطالية لفترة محددة تنال أرتريا بعدها الاستقلال. ومن ايلول ١٩٤٨، احيلت مشكلة الاستعمرات الايطالية السابقة، بما فيها مشكلة أرتريا،

إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة نظراً لتعذر الاتفاق بين الدول الكبرى حول هذا الموضوع. وبهدف توافر المعلومات حول إرتريا، أرسلت الامم المتحدة بعثة (من ممثلي بورما، غواتيمالا، النرويج، باکستان، واتحاد جنوب افريقيا) للتحقيق حول رغبات السكان. الا أن البعثة لم تستطع الخروج بحلول موضوعية وسط ضغوطات الدول صاحبة المصلحة وضمن أجواء الارهاب الذي زرعته اثيوبيا بين الارتيريين. فالامبراطور الاثيوبي استمر على موقفه الرافض للاعتراف بأي تمايز لأرتريا معتبراً اياها اقليماً اثيوبياً ليقيه له منفذاً إلى البحر، المنفذ الذي سبق لاثيوبيا ان عانت من فقدانه في ١٩٣٥، اضافة الى ما كان يشكل، بالنسبة اليه، اللون الديمقراطي الذي اضطربت به الثقافة السياسية الارتيرية من خطر على حكمه الملكي المطلق.

وفي اجواء هذه العراقيل، تبنت الامم المتحدة، في كانون الاول ١٩٥٠، المشروع الاميركي الذي كان ينص على اقامة اتحاد فدرالي بين ارتريا واثيوبيا.

ولم يبدأ تطبيق الاتحاد إلا في ١٥ ايلول ١٩٥٢، أي بعد نحو عامين اتسما باعمال عنف وارهاب غذتهما اثيوبيا وذهب ضحيتهما الآلاف من الارتيريين، خصوصاً الاستقلاليين منهم وعلى رأسهم أحد قياديهم عبد القادر كبير. كما لم تنشأ الحكومة الفيدرالية التي كان من المفروض (بحسب قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة) أن تؤلف من ولايتي (أو دولتي) ارتريا واثيوبيا، اذ اعتبرت الحكومة الاثيوبية نفسها هي الحكومة الفيدرالية، وبادرت الى احتلال ارتريا عسكرياً عشية تنفيذ القرار الاتحادي. فكانت النتيجة ان الاستقلاليين الارتيريين الذين كانوا اقلية في ١٩٥٢، اصبحوا اكثرية، وكثرة متنامية يوماً بعد يوم عدا تشكيل «جبهة التحرير الارتيرية» (١٩٦٠).

انعكاسات الانقلاب الاثيوبي: في الوقت الذي كانت حركة التحرير الارتيرية تحقق انتصاراتها الأولى ، ثم تتزلق في طريق خلافاتها الداخلية (الدموية في احيان كثيرة)، غرقت اثيوبيا، بدورها، في حركة ثورية أطاحت نظام هايلي سيلاسي. كانت قضية ارتريا على رأس جدول النظام الاثيوبي الجديد. وأول رئيس للمجلس الثوري «الدرغ» باللغة الامهرية)، الجنرال أمان عندوم ، هو نفسه أرتري. وقد سارع الى عرض مفاوضات على الثوار الارتريين حول استقلال ذاتي للاقليم يعوض عليه الظلم الذي لحقه به الامبراطور المخلوع. لكن اغتياله (في تشرين الثاني ١٩٧٤) على يد العناصر القومية المتطرفة في «الدرغ» بقيادة منغيستو هايلي مريام أفشل المحاولة التفاوضية السلمية للنزاع في ارتريا. وأخذت ثورة «الدرغ» تكرر الأخطاء نفسها التي ارتكبها النظام الامبراطوري. وحال الفوضى التي تخبطت فيها الحركة الثورية في اثيوبيا، في سنواتها الأولى ، دفعت خصومها جميعاً للانتقال الى مرحلة الهجوم. ومن جهتها، تمكنت الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا من بسط سلطتها على معظم اراضي ارتريا، وحاصرت ميناء مصوع. وفي الشرق، حاول الصومال الذي تلقى سلاحه من الاتحاد السوفياتي انتزاع إقليم أوغادين من اثيوبيا، وشارف على تحقيق غايته لو لم تقف التحالفات فجأة رأساً على عقب: الاتحاد السوفياتي يقلب موقفه في المنطقة ويقف بكل ثقله الى جانب اثيوبيا. الجيش الصومالي يهزم في أوغادين، والمدافع السوفياتية الثقيلة تسحق قوات الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا (الماركسية) على طول ساحل مصوع. انكفأت الجبهة الشعبية الى الداخل، وأخذت تنشط للتعويض عن خساراتها العسكرية في الساحل، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحقق كوادرها ما يشبه المعجزات

 

ونالوا اعجاب العالم: معامل ومجاهدات تحت الارض تجنباً للقصف، اصلاح زراعي، رفع مستوى المرأة ومشاركتها، تطوير التعليم الابتدائي وتعميمه.. ثورة اجتماعية حقيقية استفادت منها الجهة كبريقة رابحة في بدئها تجاه العالم. إضافة إلى ما كسبته داخلياً، ففي حين كانت غالبية الارتيريين تقف الى جانب مطلب الاستقلال لأسباب سلبية نتيجة لمواقف الحكم الاثيوبي السلطوي الاو توقراطي، او الامبراطوري او الشيوعي، اصبحت، في الثمانينات تدافع عن هذا الاستقلال لأسباب ايجابية، اي نتيجة لما لمسته من انجازات فوريتها في جميع الحقول. وفي المقابل، لم يقدم النظام القومي - الشيوعي في أديس ابابا الا سياسة القوة الخالصة. فخلال عشر سنوات (١٩٧٨ – ٨٨)، استمر منغيستو رافضاً لكل حوار، واستعمل قدرات عسكرية هائلة قدمها له الاتحاد السوفياتي (مع ما يترتب على ذلك من نفقات وأزمات اقتصادية واجتماعية) بهدف سحق الثورة الارتيرية: اكثر من ٢٠٠،٠٠٠ جندي منظم استمروا في حال جهوزية كاملة ضد ٣٠،٠٠٠ من ثوار الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا. استنفدت اثيوبيا قواها في هذه الحرب التي كادت تودي بها الى الانهيار الكامل. النزاع على عصب والانتصار النهائي: في ربيع ١٩٨٨، انقلب الموقف تماماً. الجبهة الشعبية تستولي في «معركة» أفهبيت، على ترسانة هائلة من الاسلحة الاثيوبية الثقيلة (مدافع ، مصفحات). أما القوات الاثيوبية، المتشكلة بغالبيتها من شباب ينتمون الى الجنوب ولا تعني الحرب لهم شيئاً يذكر ، فاحتفظت بقدرة قليلة على الدفاع. وبفضل هذه الاعدة ، والدعم العراقي الذي كانت تتلقاه الجبهة من سنوات ، انتقل مقاتلوها الى الهجوم، وحتى الى دعم حلفائها في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي كانت تقاتل الاثيوبيين في المناطق الجنوبية. وفي شباط ١٩٩٠ ، استولت الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا على مصوع حيث فتحت لها نافذة على العالم الخارجي، ثم انتقلت الى محاصرة العاصمة الارتيرية، أسمرا، التي كانت لا تزال في أيدي الاثيوبيين؛ ودخلتها دون معارك وفي الوقت نفسه الذي دخلت فيه قوات الحلفاء في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي العاصمة الاثيوبية، أديس أبابا. بعد أيام معدودة، في أيار ١٩٩١: فر منغيستو من العاصمة متجهاً الى زيمبابوي. ورفع ارتريا قبل الاستقلال: البلاد مخربة نتيجة ٣٠ عاماً من المعارك التي ألحقته بحاجة الى التأسيس من جديد. الصناعة عند النصف الاخير حتى ولو كانت هناك صناعات (منشآت ميكانيكية صغيرة) لا تزال عاملة. العجز بالعملة بصل الى ٣٠٠ الف طن. هناك نصف مليون لاجئ أرتيري في السودان، تشكل عمليات إعادتهم الى الوطن مشكلات هائلة لم يتجاوز عدد سكانه يوما ٣.٥ مليون نسمة. على الصعيد السياسي، استعدت الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا لأن تجري تحولاً في بنائها وهياكلها التنظيمية وهي المعاداة على «المركزية الديمقراطية الماركسية اللينينية»، فقررت عقد مؤتمر استثنائي غداة الاستفتاء على الاستقلال نحو نفسها. رفاق زعيسم الجبهة الحالي، اساباس أفورقي، الذين عرفوه منذ قبل انطلاق الثورة في ١٩٦٢، اصبحوا في عداة الاموات أو انهم انسحبوا من الحياة السياسية؛ وعدد كبير من أعضاء جبهة تحرير ارتريا التي انهزمت في السبعينات، اخذ يعود الى البلاد، وبعضهم ينتظم في تشكيلات يغلب عليها الطابع الاسلامي في حين ان الجبهة الشعبية يسيطر عليها المسيحيون. وإضافة الى ذلك، فإن السودان الذي دعم الجبهة طيلة حرب التحرير، يجد نفسه اليوم، في ظل نظام أصولي، مدفوعاً لدعم الحركات الاسلامية التي يبدو انها أخذت تنشط في ارتريا وتعتبر أسباباً أفريق «الملجأ».

ومع ذلك، تتمتع ارتريا ببرهان نادر في افريقيا: ثمة مشاعر مختلفة لدى المجموعات الاثنية والدينية، لكنها مشاعر موحدة في ما يتعلق بالمصير الوطني. فالتجارب التي عاشها الارتيريون بصورة مشتركة حفرت عميقاً في الوعي الجماعي الذي ستحتاجه ارتريا بقوة في ورشة إعادة بناء اقتصادها وإدارة تناقضاتها الاثنية – السياسية. العلاقات مع أديس أبابا، حيث النظام الشقيق ورفيق السلاح في اسقاط منغيستو، ممتازة. ومع ذلك ثمة اسباب للخلاف: الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا تلح على رسم الحدود المعروفة منذ ١٨٩٠ (ايام الاستعمار الايطالي)، ما يتيح لأرتريا الاحتفاظ ليس فقط بمدينة عصب بل أيضاً كل منطقة الدنقل ومرقاً عصب (وهذا المرفاً يبدو قليل النفع بالنسبة لأرتريا في حين انه شديد الحيوية لاثيوبيا: وعليه مصفاة النفط الاثيوبية الوحيدة، ومنفذها الوحيد على البحر وبعيد عن جيبوتي في الوقت نفسه). ومطالبة اساباس أفورقي بـ «عصب» ترمي عصفورين بحجر واحد: من جهة، يمسك بشريان حيوي بالنسبة الى اثيوبيا يستعمله في حال قيام نظام معاد لارتريا مستقبلاً. ويؤمن، من جهة ثانية، مداخل مهمة من المرفأ ومصفاة النفط، هي المصادر الوحيد للعملات في الاقتصاد الارتيري المنكوب حالياً. لكن، ولسوء الحظ ان عصب ومنطقتها مأهولة بقبائل العفر (أو العفار) المعادين لفكرة العيش في ارتريا مستقلة حيث لا يرون لهم دوراً، ويفضلون استقلالاً ذاتياً ضمن اثيوبيا اتحادية. فأرتريا

الذي، فور اعلان استقلالها، لادارة امبراطورية صغيرة تضم اقليات متعددة، ومشكلة عفار، التي تهدد أمن عصب، تبدو المشكلة السياسية الاولى التي ستواجه العهد الاستقلالي منذ بدايته.

الاستفتاء والاستقلال إن الشعب الارتيري الذي حرم من التعبير عن حقه في تقرير المصير وتأكيد مسألته الوطنية، وعنما مورست في حقه حرب جائرة، وبعد نضال طويل وشاق وتضحيات جسام، تمكن عبر الاستفتاء من التعبير عن خياره الديمقراطي على مرأى من المجتمع الدولي (...) إن الشعب الارتيري استطاع قبل عامين من انتزاع حريته في ايار ۱۹۹۱ ، وبما ان الاستقلال والانضمام الى المجتمع الدولي يتطلبان إجراء خاتمة ديمقراطية وقانونية، فإن الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، وادراكاً منها لضرورة هذه العملية القانونية، اقامت حكومة مؤقتة من دون ان تعلن الاستقلال وقررت ان يتم التعبير عن الخيار الحر والنزيه للشعب الارتيري عبر الاستفتاء» (اساباس افورقي، من مؤتمر صحافي عقده عقب اعلان نتائج الاستفتاء على الاستقلال في ٢٤ نيسان ١٩٩٣). وأضاف أفورقي (زعيم الجبهة لتحرير ارتريا وأول رئيس لجمهورية اريتريا المستقلة) في المؤتمر الصحافي نفسه: «إن المراقبين، وعلى رأسهم السيد صينير صير (فلسطيني يحمل جواز سفر لبناني) رئيس فريق الامم المتحدة لمراقبة الاستفتاء في ارتريا، تأكدوا من ان عملية الاستفتاء والتصويت كانت حرة ونزيهة. وهذه النتيجة لم تكن مفاجئة وغير متوقعة. فالمسألة لم تكن منافسة سياسية بقدر ما كانت مسألة وجود شعب او عدمه ، لذلك فإن النتيجة كانت معروفة ومفهومة سلفاً. وبذلك اصبحت خاتمة تاريخية ومقبولة لخيار الشعب الارتيري. وبهذا وان كان من المقرر ان يتم اعلان الاستقلال يوم ٢٤ من ايار ١٩٩٣(أي بعد شهر) فإن ارتريا ومنذ اليوم هي دولة مستقلة ذات سيادة». وكان عدد المسجلين للاستفتاء ١,١٧٣,٧٠٠ شخص. شارك منهم في الاقتراع ١,١٥٢,٢٨٠ شخص، فبلغت نسبة المقترعين ٩٨,٠٥٢٪ قالوا «لا»، ١.٢٢٪، أوافق على ان تكون ارتريا دولة مستقلة ذات سيادة»، في حين قال ١,١٤٢,٢٨٠٪ «لا اوافق على ان تكون ارتريا دولة مستقلة ذات سيادة». فتشكون نسبة الموافقين ٩٩,٨٠٥٪ ونسبة غير الموافقين ٠.٠١٩٥٪ ومن الذين لم يوافقوا (وعددهم ١٨٢٢ شخصاً) هناك ٦٩٠ شخصاً من الذين اقترعوا خارج البلاد. ووجدت ٣٣٨ ورقة

تم استخراج النص التالي من الصورة:

اقتراع غير صالحة. وتمنع ٥٨٧٨ شخصاً عن الاقتراع. وعدد المسجلين للاستفتاء والمقترعين شمل الارتيريين المقيمين (اثناء الاستفتاء) في ارتريا وخارجها. ففي السودان يعيش نحو نصف مليون نازح من الحرب، منهم ١٦٠ ألف شخص مسجل للاستفتاء. وقد سمح ايضاً للمقيمين الارتيريين في اثيوبيا وايطاليا بالادلاء بأصواتهم. وكان هذا الاستفتاء أول انتخابات حرة في عشرين قرناً من التاريخ الارتيري المسجل لشعب حكمه في القرون الاربعة الاخيرة الاتراك والمصريون والايطاليون والبريطانيون والاثيوبيون. وقد بادرت اثيوبيا على الفور واعلنت موافقتها على نتائج الاستفتاء واعترافها بالدولة الجديدة. كما اتفق ممثلو الولايات المتحدة وايطاليا ومصر والسودان افورقي وليفوا اليه اعتراف حكوماتهم باستقلال ارتريا. وبعد شهر من الاستفتاء، أي في ٢٤ ايار ١٩٩٣ (ذكرى التحرير) أعلن استقلال ارتريا. وبعد يومين صدق مجلس الامن الدولي بالاجماع، في اجتماعین قصيرين على طلب دولة ارتريا المستقلة حديثاً وامارة موناکو الصغيرة الواقعة على ساحل الريفيرا الفرنسية التي لها وضع مراقب في الامم المتحدة منذ ١٩٥٠. وبعد يومين ايضاً، قبلت الجمعية العامة للامم المتحدة ضم كل من أرتريا وامارة موناکو لعضويته الكاملة الدولية، ما زاد عدد الدول الاعضاء فيها الى ١٨٣ عضواً. «أصبحت أرتريا الدولة الثانية والخمسين في افريقيا، وكان من الممكن، في غير الوضع الحالي للعالم العربي، ان تكون الدولة الثالثة والعشرين في جامعة الدول العربية لو استقلت ارتريا في السبعينات. لكانت دخلت العالم العربي من باب حركات التحرر القومية التقدمية. ولو استقلت في السبعينات لكان من المرجح ان تدخله، كما جارتها، جيبوتي والصومال، من باب الرغبة في الانتماء الى مجموعة دول ذات مستقبل اقتصادي زاهر بفضل الثروة النفطية لبعضها. لكن ارتريا تستقل في العام ١٩٩٣ وليس في العالم العربي ما يغري الدول الجديدة على الانضمام اليه. ارتريا اليوم هي وليدة الظرف الاقليمي، كما هي وليدة اعوام القتال الاخيرة ضد نظام منغيستو هايلي مريام «الاشتراكي» السلطوي في اثيوبيا، ونموها رهن بقدرة دولتها على استيعاب فوارق شعبها الاثنية والدينية والسياسية وإرساء قاعدة إقتصادية لكيانها السياسي» (جمانة ابو الروس مفرح، باحثة في الشؤون الدولية، «دولة وحديثة علمانية وهوية غامضة»، «النهار»، ٢٩ ايار ١٩٩٣).

علاقات الدولة الوليدة الارادة الاميركية: مع تطور الاحداث في ارتريا منذ ١٩٩٠ تحديداً شهد الموقف الاميركي تطوراً ملحوظاً باتجاه تأييد حق الشعب الارتيري في تقرير المصير. فقد رعت الادارة الاميركية لقاءات رسمية علنية بين الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا والحكومة الاثيوبية السابقة. واعترفت بالحكومة الارتيرية الموقتة بعد تحرير كامل ارتريا في ٢٤ ايار ١٩٩١ ، وكانت بالولايات المتحدة من اكثر الدول حماساً لإجراء الاستفتاء على الاستقلال. ثم من أولى الدول اعترافاً بالدولة الوليدة، ولمة اعتقاد لدى البعض، خصوصاً من العرب، ان الولايات المتحدة هي وراء دفع الحكم الارتيري في الاتجاه الاسرائيلي، وانه و يخشى ان يكون الاميركيون سمحوا بولادة ارتريا لتكون دولة تؤدي وظيفة حددوها لها... فالمولود الجديد انصهر التور وفي يده مجموعة قوات اميركية لا بد ان يستخدمها لقاء نموه واستمراره. لذلك فهو لن يتردد في التقرب من اسرائيل ومن ثم التسرع في كنفها، ليكون

لتنمو لها هو مطلوب اميركيا من دول المنطقة بما فيها الدول العربية. لذلك، ايضاً، هو لم يتردد في اي عروبة تشوبها ومع مجتمعها حتى لو كان الاهالي في قطاع دنكاليا يتكلمون العربية ويتاثرون بعلاقة متجذرة مع اليمن. وهكذا، تجنباً لإثارة حساسية الاميركي والاسرائيلي تظهر الله الارتيرية: وقد سمح ايضاً للعفاريت الارتيريين في اثيوبيا وايطاليا بالادلاء بأصواتهم. إسرائيل: وسط انخفاض بعض العرب المتجمد عن اقليم الحرير الصحافي المسموح به (والصحافة العالمية والعالمية اصبحت واحدة في لغتها بتكريس للزعامة الاميركية على العالم)، بدأ بادرت اثيوبيا على الفور واعلنت موافقتها على نتائج الاستفتاء واعترافها بالدولة الجديدة. كما اتفق «اجتمع رئيس الحكومة الارتيرية الموقتة اسابيس افورقي ، امس (١٥ شباط ١٩٩٣) ، لمدة ساعة، مع رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين. وذكر ان البحث تناول «الاخطار التي تتهدد المنطقة لا سيما الخطر الاسلامي المتطرف» حسب مصدر في مكتب رئاسة الوزراء. واضاف المصدر ان افورقي الذي يعالج في اسرائيل منذ اسبوعين من المارزم قام بزيارة «مجاملة لرابين في مكتبه ، واكد له على «العلاقات المميزة بين ارتريا واثيوبيا» إذ تعتبر الاخيرة حليف اسرائيل في القرن الافريقي. وتابع المصدر ان الجانبين اتفقا على ان هناك خطراً اسلامياً متطرفاً يتهدد منطقتي الشرق الاوسط وشرق افريقيا، خصوصاً مع تعاظم نفوذ ايران». وقال الرئيس الارتيري «اشار الى الخطر السوداني على منطقة شرق افريقيا على رغم قلة مصادرها، وذلك بسبب تاثير ايران هناك مما يحتم على الجميع مكافحة هذا الخطر كما في مصر والجزائر وتونس». وقال ناطق باسم رئيس الوزراء الاسرائيلي انه ابلغ ضيفه «استعداد اسرائيل لكل انواع التعاون وفي كل المجالات مع ارتريا بعد ان تصبح كيانا مستقلاً بكل معنى الكلمة». وتدل الناطق عن أفورقي قوله ان العلاقات بين اسرائيل وارتريا «تطورت بشكل ملحوظ اخيراً وخلال فترة قصيرة، وان على ارتريا التي ستشكل نموذجاً في المنطقة ان تتعلم كل ما يمكنها من اسرائيل». واضاف ان الرئيس الارتيري اعتبر «ان السلام في المنطقة شرط من شانه ان يخلق نوعاً من الاستقرار في شرق افريقيا ولذا فان ارتريا على استعداد لان تساهم بقدر ما تستطيعه في استقرار منطقة الشرق الاوسط. ويذكر ان هذه هي المرة الثانية التي يزور فيها رئيس الحكومة الارتيرية اسرائيل منذ بداية العام الحالي (١٩٩٣)، ويتوقع ان يغادرها هذا الاسبوع بعدما تمثل للمخفاه» و «الحياة»، ١٦ شباط ١٩٩٣). وفي مناسبات عديدة لاحقة، لم تخف الحكومة الارتيرية انها لن تكون لها علاقة طيبة، بل مميزة، مع اسرائيل. فأقامت علاقات دبلوماسية معها. وركز المسؤولون الارتيريون على ان السياسة الخارجية لبلدهم توجهها المصالح الحاضرة لبلدهم المنكوب، وليس اعتبارات الماضي، خصوصاً ان تقلب التحالفات الدولية في المنطقة جعل معظم الدول عدوة لثورة الارتيرية في مرحلة من مراحلها. ويبرز القادة الارتيريون ان اسرائيل عرضت عليهم المساعدة مباشرة بعد التحرير. وقد ذكر أفورقي ان بلاده بدت بدورها منذ تحريرها جهداً كبيراً لتقوية العلاقات مع الدول العربية. وبدأ يلاحظ التعاون بين البلدين في المجال الزراعي خصوصاً، إذ يتطلع المسؤولون في ارتريا الى تطبيق الاساليب التي اختبرتها اسرائيل في التنمية الزراعية. وثمة امر واحد لا يزال يواصل (١٩٩٣) المسؤولون الارتيريون ينفونه ويتعلق بالتعاون العسكري بين ارتريا واسرائيل رغم ما يرجحه (ويؤكده احياناً) مراقبون عرب وغربيون عن استخدام القوات الاسرائيلية جزيرة دهلك الارتيرية القريبة من ميناء مصوع، وكان سبق لهذه القوات ان استخدمت الجزيرة في العهد الاثيوبي السابق وتركت فيها بعض المنشات.

 

السودان: إلى علاقاتها الممتازة باسرائيل، حافظت الحكومة الارتيرية على علاقات طيبة بالبلدان العربية. منذ شارك وفد من جامعة الدول العربية في مراقبة عمليات الاستفتاء على الاستقلال (٢٢ نيسان ١٩٩٣) في اشراف الامم المتحدة. وقد اعترفت معظم الدول العربية بالدولة الجديدة. واللافت بنوع خاص تحسن العلاقات الارتيرية مع السودان الذي كان اول دولة تفتح لها سفارة في اسمرا؛ مع ان لنظامي الحكم في البلدين توجهات مختلفة. وزار اسمرا (اواخر ايار ١٩٩٣) قائد هيئة الاركان العامة السودانية وبحث مع المسؤولين الارتيريين في القضايا الامنية المشتركة، علماً ان السودان يستضيف نحو نصف مليون لاجئ ارتري نزحوا خلال القتال مع اثيوبيا. ومعروف ان «تنظيم الجهاد» الارتيري الاسلامي الاصولي المعارض للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ينشط لدى اللاجئين في السودان؛ وتشكوا بعض المنظمات المعارضة الأخرى، مثل «جبهة تحرير ارتريا – المجلس الثوري» من «تواطؤ» بين حكومتي اسمرا والخرطوم لملاحقة انصارها. وكانت السلطات الارتيرية رفضت عودة اللاجئين من السودان قبل ان تحصل من المفوضية السامية للاجئين في الامم المتحدة على برامج شاملة لاستيعابهم. وقد وافقت المفوضية على ربط العودة ببرامج اعادة التوطين بعدما كانت في البداية رفضت مثل هذا الربط.

تعليقات