أذربيجان والأرمن
منذ أكثر من خمس سنوات من اليوم (أواسط (۱۹۹۳) بدأ الأرمن (وكان ذلك قبل نحو سنتين من انهيار الاتحاد السوفياتي) تحركهم لاستعادة ناغورنو قره باخ (منطقة ذات حكم ذاتي من ضمن جمهورية أذربيجان السوفياتية بموجب الحدود التي رسمها جوزف ستالين) رافضين الاعتراف بشرعية وضعها لتجاهل ستالين وجود غالبية ارمينية فيها. وبداية هذا التحرك كان في ٢٠ شباط ١٩٨٨ عندما نظمت «حركة قره باخ مظاهرة دعت لضم قره باخ (أو كرباخ) إلى أرمينيا، والتي يشكل الارمن غالبية سكانها.
ثم ما لبثت أن بدأت تقع حوادث امنية وعسكرية، تطورت إلى معارك عسكرية بين الارمن والأذريين، وإلى حرب وصلت أوجها في شباط وآذار ونيسان من العام ۱۹۹۳. ونتيجة هذه الحرب، سيطر الارمن، اضافة الى قره باخ، على ممر بري يصلها بأرمينيا عبر بلدة لاتشين الحدودية (في ايار (۱۹۹۲)، وعلى منطقة ومدين كاجار الحدودية المهمة غرب أذربيجان بعد حصار استمر اسبوعاً أوائل نيسان (۱۹۹۳)، بحيث أصبح الارمن يسيطرون على ما يعادل ١٠٠٪ من اراضي أذربيجان المعترف بحدودها دوليا، وهي الحدود ذاتها التي كانت في ايام الاتحاد السوفياتي. ومن المآسي التي سببتها هذه الحرب مأساة حاج علي، عندما قتل حسب مصادر باكو (عاصمة أذربيجان) حوالي الفي اذري حوصروا في هذه المدينة في شباط ۱۹۹۲، وأدت تلك الكارثة إلى
إسقاط الرئيس الأذري أيار مطلوب الذي خمل مسؤولة الهزيمة؛ وفاز، بعده، في الانتخابات الرئاسية أبو الفضل الشتييه، زعيم الجبهة الشعبية. وكثيراً ما اتهمت أذربيجان خلال الحرب، روسيا بوقوفها إلى جانب أرمينيا، وأحياناً بإشتراكها في المعارك العسكرية متهمة خصوصاً، فريقاً من الروس والمحافظين» الذين لا يزالون يعملون لإعادة «الاتحاد السوفياتي». والجدير ذكره هنا، ان اتفاقاً للدفاع المشترك يربط أرمينيا بروسيا والاعضاء الآخرين في «اسرة الدول المستقلة»، ويلزم موسكو حماية ارمينيا اذا تعرضت اراضيها للخطر، في حين ان أذربيجان ليست عضواً في معاهدة الأمرة وتربطها روابط وثيقة بتركيا العضو في حلف الاطلسي (الناتو). حاول الاذريون في النصف الاول من (۱۹۹۳) تعويض هزائمهم العسكرية المتتالية بتمسكهم بما يعتبرونه حقوقاً إقليمية وسياسية لهم وبعملهم لكسب الموقف الدولي إلى جانبهم. وكثيراً ما كرر الرئيس الأذري أبو الفضل الشتييه ان استيلاء القوات الأرمنية على منطقة كليجا دجار (الواقعة بين ارميا وجيب قره باخ) دفع الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا الى التحرك على مستوى أوسع لوقف الحرب... (وأن) الولايات المتحدة طالبت بسحب القوات الارمنية من كليادجار... (وان) موقف ایران وتركيا حازم جداً أيضاً .... وكان يؤكد، في كل مرة، ان لا مساومة حول انتماء قره باخ الى أذربيجان، فإذا كان الارمن يخوضون الحرب لفصل ناغورنو قره باخ عن أذربيجان فلن يكون هناك سلام أبداً في القوقاز» (راجع أرمينيا).
الموقف الدولي بدأ هذا الموقف من الحرب الأذرية - الأرمنية، بالتبلور مع وصول وفد من «مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي (أواسط نيسان (۱۹۹۳) الى مناطق القفقاس لإكمال جهود الوساطة بشأن النزاع حول قره باخ (كرباخ). فالانتصارات العسكرية الارمنية لا سيما السيطرة على مدينة كليادجار ومنطقتها في أذربيجان، تركت أثراً عميقاً في مجريات الأمور على أرض الواقع، إذ قد تؤدي الى ضم قره باخ المتنازع عليها إلى أرمينيا بحكم الأمر الواقع. والمفاوضات التي بوشر بها قبل أشهر من وصول الوفد الاوروبي لم توفق بايقاف المعارك العسكرية. وفي أوائل أيار ۱۹۹۲ ، وفي حين كان وزير الخارجية الأرمني يرعى في طهران، توقيع اتفاق بين الرئيسين الأذري والأرمني كانت القوات الارمنية تقاتل وتسيطر على مدينة شوشا الاستراتيجية والاملة بالأذربين. ووساطات غير مثمرة ايضاً قامت بها موسكو ومنذ أول حزيران ۱۹۹۲ ، رعى مؤتمر الأمن والتعاون الاوروبي ستة اجتماعات أفضلها جميعاً رفض أرمينيا الاعتراف بكونها طرفاً في النزاع معتبرة ان الأمر متعلق بأرمن قره باخ (كرباخ)، وهي حجة كانت باكو (عاصمة أذربيجان ترفضها على الدوام كي لا تسمح للجمهورية قره باخ ذات الاغلبية الارمنية التي أعلنت انفصالها عنها الحصول على مقعد ثالث في المفاوضات ومع ذلك، اتفق الرئيسان أبو الفضل الشتييه الأذري ولفون بتروسيان الأرمني في لقائهما اثناء جنازة الرئيس التركي تورغوت أوزال (۲۱) نيسان (۱۹۹۳) على إنشاء «هاتف أحمر بينهما لمتابعة المفاوضات. لكن اجتياح الأرمن لمدينة كليادجار ومنطقتها، ولمصر لاتشين والمنطقتين خارج اقليم قره باخ، دفع الرأي العام الدولي وحكومات الدول الى الشك في نوايا ارمينيا التي بدأت وسائل الاعلام
الدولية تتحدث عن «عزلة دبلوماسية لأرمينيا تجد أذربيجان للاستفادة منها فتكسب سياسياً ما خسرته عسكرياً من خلال حلها سواء في العالم الغربي أو الاسلامي. لكن تركيا وحدها استمرت تدعم أذربيجان عملياً على الصعيد الدبلوماسي، وهذا الدعم نفسه محكوم باعتبارات تحد من فاعليته: الضغوطات الاميركية والفرنسية، و والبريطانية على مرافقة مجموعتهما الارمنيتين في الداخل؛ الوضع السياسي الداخلي المعقد في تركيا، وخشية تركيا من التصادم مع روسيا المعتبرة مؤيدة لأرمينيا. واضافة الى ذلك، تبدو أنقرة شديدة الحرص على عدم المساس بدرجة تجسر تفاهم بين الغرب ودول البحر الأسود وآسيا ووسطى السوفياتية سابقاً في اليوم نفسه الذي سيطر فيه الأرمن على كليادجار، أكد سليمان ديميريل، رئيس الوزراء التركي (رئيس الجمهورية بعد تورغوت أوزال ان بلاده راغبة دائماً على إقامة علاقات حسن الجوار مع ارمينيا وأذربيجان على قدم المساواة. وقد ميزه هذا الموقف عن موقف الرئيس التركي أوزال، المعتبر عن غضب الاتراك حيال ما تعرضت له أذربيجان. في الأمم المتحدة تلقت أذربيجان دعماً من تركيا غير متحفظ. ومع ذلك، ظل مجلس الأمن الدولي يكتفي (كما في ٦ نيسان (۱۹۹۳) بإعلان دون قرار أو توصية عن ضرورة وقف القتال ورحب «القوات الأرمنية المحتلة (المقصود قوات قره باخ التي اجتاحت إقليم كليادجار الأذري». وقد تميز الموقف البريطاني - خصوصاً عن الفرنسي - بدعمه الدبلوماسي لأذربيجان بسبب المصالح النفطية (شركة بريتش بتروليم العاملة في أذربيجان). وتظهر روسيا دأباً موقفاً أقرب الى أرمينيا، العضو في «أسرة الدول المستقلة التي لا تزال أذربيجان ترفض الانضمام اليها فتجد نفسها في موقع الحليف لجورجيا التي تشعر ان سيادتها مهددة من النفوذ الروسي في القوقاز. في إيران، ثمة رأي عام واسع يعترض على مهادنة حكومة طهران لأرمينيا، إذ بدا أن الحكومة لم تتخذ الموقف «المناسب من اعتداءات أرمينيا واحتلالها كليادجار فجرت مظاهرات صاخبة في تبريز (عاصمة أذربيجان الايرانية) وقع على أثرها عدد من الجرحى بين الطلاب، وكذلك في طهران حيث هاجم المتظاهرون مراكز الدبلوماسيين الأذريين وطالبوا برحيل السفير الأرمني فرأي الأذريين الإيرانيين أن ٪١٠ من اقليم أذربيجان الشمالية هكذا يدعون جمهورية أذربيجان قد ضاع. وأخيراً، فإن الدبلوماسية الاقليمية والدولية إزاء الصراع الأذري - الارمني، وصلت (أواخر ایار (۱۹۹۳ الى توافق أرمينيا وأذربيجان على خطة جديدة للسلام في ناغورنو قره باخ. لكن القائد العسكري للأرمن في هذه المنطقة، روبرت كوتشاريان، سارع الى رفض الخطة التي توافقت على طرحها كل من روسيا وتركيا (أصبح سليمان ديميريل رئيسها قبل نحو اسبوعين) والولايات المتحدة بحجة انها لا تضمن أمن المدنيين، وأن أقرة طرف في الخطة) منحازة الى جانب أذربيجان. وتنص الخطة على تقليص العمليات العسكرية اعتبارا من ۲۹ ايار ۱۹۹۳، ووقفها نهائياً ابتداء من أول حزيران لمدة ٦٠ يوماً، وبدء محادثات في جنيف تضم الوسطاء والأطراف المتقاتلة؛ ويتبع ذلك عقد اجتماعات في روما برعاية «مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي».
الوضع الداخلي (۱۹۹۳) لكن الوضع الداخلي في البلاد، المتميز بعدم الاستقرار السياسي والاضطراب الامني منذ أحداث شباط ۱۹۸۸ (انتفاضة الارمن في العاصمة الأذرية باكو مروراً بهزائم حرب قره باخ، لايزال على حاله، وقد أثر هذا الوضع، مع بداية حزيران ۱۹۹۳، نحو ميل الى التصاعد، حيث قام قائد متمرد (سورت حسینوف في الجيش الأذري بالسياق على غنجة (ثاني أكبر مدن البلاد بعد معارك مع قوات السلطة، وطالب المتمردون بينهم وزير الدفاع السابق، رحيم غازييف، باستقالة الرئيس أبو الفضل الشتييه الذي اتهم «قوى خارجية» بافشال حوادث مدينة غنجة في إشارة الى روسيا المستفادة من رفض حكومة باكو الانضمام الى «اسرة الدول المستقلة» وتوقيع معاهدة الدفاع المشترك، و في إشارة أيضاً إلى قيام موسكو بسحب اللواء الموالين الروسي من غنجة خشية الحوادث، ما يوحي بانها كانت تعرف مسبقاً بوقوعها. و في إطار تفاقم الحالة الأمنية والسياسية (خلال حوارى وشفير حزب أهلية)، أصبح حيدر علييف، زعيم الحزب الشيوعي الأذري السابق الذي عينه الرئيس السوفياتي غورباتشوف (۱۹۸۷) بسبب معارضة حركة الاصلاح آنذاك، والرئيس الحالي لجمهورية نختشيفان التي تتمتع بحكم ذاتي في إطار أذربيجان، والمعروف بصلاته القوية مع موسكو وطهران وبايران وأنقرة، أصبح حيدر علييف مرشحاً قوياً لاستلام مقدرات البلاد من خلال حكومة ائتلافية جديدة تنهي تفرد الجبهة الشعبية بالسلطة، وقد تتمكن من ايجاد تسوية لمشكلة قره باخ. و في اواسط حزيران (۱۹۹۳)، تفاقمت الحالة الأمنية، وواصل المتمردون بقيادة حسینوف زحفهم إلى العاصمة باكو، ومحاولة لوقف تدهور الوضع في اتجاه حرب أهلية شاملة، انتخب برلمان أذربيجان حيدر علييف رئيساً له. ثم أدت التطورات المتسارعة إلى إستلاء علييف على السلطة في البلاد بعد فرار الرئيس الشتييه في اليوم نفسه (۱۸) حزيران ۱۹۹۳). لكن البرلمان رفض، في اليوم التالي تسليم علييف الرئاسة رسميا اثر إعلان اذاعه الشتييه من نختشيفان وأكد فيه استعداده للعودة الى باكو وتشكيل حكومة ائتلافية. ووفقاً للدستور يتولى رئيس البرلمان (علييف) مهمات الرئيس في حال استقالته أو مرضه لفترة طويلة. و مع رفض الرئيس الاستجابة لطلب البرلمان العودة الى باكو، واعلان صفر أبيض، وكيل وزارة الدفاع، ان الارمن استغلوا الشلل للسلطة بالقيام بهجوم كاسح في قره باخ، ومخاطبته النواب في جلسة عقدت ليل ٢٥ - ٢٦ حزيران (۱۹۹۳) قائلاً: «اما ان تتخذوا قراركم اليوم أو يكون الوقت فات». فقرر البرلمان سحب صلاحيات الرئيس الفضل الشتييه وتحويلها الى حيدر علييف. و وصف الشتييه بقراره بأنه استكمال برلماني للإنقلاب العسكري»، وقال انه سيستخدم وسائل ديمقراطية الاستعادة صلاحياته. وقدم آخر الوزراء استقالتهم من الحكومة، فيما التقى علييف زعيم المتمردين سورت حسینونف الذي دخل العاصمة (۲۷) حزيران ۱۹۹۳) للمرة الاولى منذ اعلانه العصيان من مدينة غنجة مطلع الشهر نفسه (حزيران (۱۹۹۳). واثناء ذلك كان الارمن يحققون انتصارات جديدة في قره باخ ويفتضون سيطرتهم على بلدة مارد كرت، وهي آخر معقل للقوات الآذرية في قره باخ الاقليم المتنازع عليه. واصبحت قوات الارمن بذلك تهدد عدداً من مدن أذربيجان شمال الاقليم، وقامت بهجوم كبير على أذربيجان اوائل تموز (۱۹۹۳) ما دفع حيدر علييف لان يناشد المجتمع الدولي ايقاف هذا الهجوم وكانت روسيا أول المستجيبين إذ لوحت بالقتال الى تأييد باكو في حال لم يوقف الارمن هجومهم وكانت قره باخ قد سقطت بكاملها في أيدي الارمن (حربها بدأت منذ قبل خمس سنوات) في ۲۷ حزيران ۱۹۹۳ عندما تم الاستيلاء على آخر بلدة أذربيجانية فيها وهي أغديرا. هذا إضافة الى سيطرة الارمن على ممرين يربطين استراتيجياً قره باخ بارمينيا عبر اراض أذربيجانية.
وقد أتى تصعيد المعارك بين قوات الدفاع الذاتي الارمنية في قره باخ والقوات الأذرية في الوقت الذي لم تنته فيه الأزمة السياسية التي شهدتها باكو ، إذ إن الجنرال سورت حسينوف، الذي عين رئيساً للوزراء في ۳۰ حزيران ۱۹۹۳، تعثر في تشكيل حكومته وانهمك في قيادة المعارك ضد الارمن، فترك العاصمة وانتقل الى مدينة أغدام حيث أصبحت قوات الارمن على مسافة كلم واحد جنوبها، مما حدا سكانها الى التدفق منها نحو الشرق ويعتبر المسؤولون الأذريون مدينة أغدام موقعاً دفاعياً مهماً. وهي تقع في واد وراء الحدود الجبلية الشرقية لقره باخ وهم يخشون في حال سقوطها، ان تتمكن القوات الارمنية من التقدم على الطريق المتجه شرقاً إلى العاصمة باكو. وقد سقطت أغدام بالفعل في ۲۳ تموز ۱۹۹۳، واصبحت القوات الارمنية تهدد مدينة فصولي الواقعة على بعد نحو ٥٠ كلم جنوب أغدام وفي رسالة بعث بها رئيس أذربيجان حيدر علييف الى الامين العام للأمم المتحدة أوضح أن القوات الارمنية تحتل اليوم (٢٥) تموز (۱۹۹۳) مساحة تزيد على %١٧ من الأراضي الأذرية وتضم ٣٠٥ قرى ومدن، ويبلغ اجمالي عدد اللاجئين ٥٩٧ ألفاً (راجع أرمينيا).