اذربيجان بين تركيا وإيران
الازمة الحالية المتصاعدة (خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ومسلسل الاستقلالات لدول القفقاس وجمهوريات آسيا الوسطى) بين تركيا وإيران يمكن العودة، بصددها، الى الجذور البعيدة للعلاقات التركية - الإيرانية حيث نلمح في الكثير من التطورات الراهنة امتداداً لأزمة عمرها خمسة قرون تخللتها حروب طاحنة واتفاقيات وهدنات مؤقتة وتحالفات تكتيكية احياناً.
فمنذ العصور القديمة توجهت انظار الطامعين من مختلف الملل والنحل صوب منطقة اذربيجان التي تقع في القسم الجنوبي الشرقي من المنطقة المعروفة بما وراء القفقاس (مناطق ارمينيا وجورجيا ويزر قزوين - الخزر - وتوابعهما). ويعتبر الاذريون (الأذربيجانيون) السكان الاصليين في المنطقة التي كانت تعرف قديماً بـ «اتر وياتيا والبانيا القفقاسية. لكنهم اختلطوا، في غضون فترة تاريخية طويلة تمتد بين الألف الاول ق.م. والألف الاول بعده، بمجموعات فارسية وتركية الاصل. وفي الفترة الواقعة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، تكونت اللغة الاذرية نتيجة انتقال موجات من العشائر الناطقة بالتركية الى مناطق اذربيجان، والتي كانت لغتها اسهل نطقاً وتركيباً من اللغات التي كانت سائدة هناك. هكذا حصل نوع من التفاعل الطبيعي، وعلى هذا الاساس أصبح لاذربيجان موقع متميز في الشرق العريق، ما اثار اطماع ملوك الفرس، ومن ثم، سلاطين تركيا، على مر التاريخ.
لقد أرسي اساس الصراع في اذربيجان، ولعب تأسيس الدولة الايرانية الصفوية فوق ارضها، في مطلع القرن السادس عشر، دوراً مهماً في تاريخ تلك البلاد. فقد استولى مؤسس الدولة الصفوية الشاه اسماعيل الصفوي (١٥٢٤ - ١٥٠٢م) على القسم الأعظم من اذربيجان التي تحولت مركزاً لحكمه على رغم اعتبار الاتراك انها من اراضيهم التاريخية. وفي غضون عقود قليلة استطاع الصفويون ضم كل ما تبقى من اذربيجان الى دولتهم التي اتخذت من مدينة تبريز عاصمة لها. لكن في فترة تأسيس الدولة الصفوية (١٥٠٢م) بدأت الحروب بين الايرانيين والاتراك تتصاعد بشكل واسع، اذ اتخذ الاتراك يمدون نفوذهم الى المناطق الشرقية من الاناضول، وبخاصة بعد انتصارهم الساحق على الايرانيين في معركة جالديران الشهيرة العام ١٥١٤، فتحولت اراضي الاكراد والارمن ساحة حرب بين جيوش الدولتين لردع من الزمن.
استمرت هذه الحالة بين حكام الدولتين الى ان تم تثبيت الحدود بينهما العام ١٦٣٩، بحسب معاهدة قصر شيرين - زهاو على يدي السلطان العثماني مراد الرابع والشاه الايراني صفي الاول، وكان قد سبق عقد المعاهدة طرد الايرانيين من بغداد وملاحقتهم الى عمق ايران.
ولكن المعادلة الاذرية تغيرت، ففي عهد الشاه عباس الاول، الذي حكم ايران مدة ٤٢ عاماً بين ١٥٨٧ و ١٦٢٩، فقد الاذريون وزنهم السابق لدى الدولة الايرانية. فقد ابعد الشاه الطموح قادتهم عن السلطة والجيش لدوره الخطير الفروكي من خلالهم. وفي ١٦٩٨، نقل عاصمة ملكه من قزوين الى مدينة اصفهان الفارسية، وسرعة جبل محل الأذرية (التركية).
هذا كله آثار خريطة الاتراك وحفد الباب العالي في الاستانة، اذ اعتبروا العملية اهانة ايرانية موجهة اليهم، وتحولت منطقة اذربيجان الى مجرد مقاطعة داخل ايران. وقد ترافق ذلك مع ترة في الاوضاع الاقتصادية الايرانية التي تفاقمت صعوبتها أكثر فأكثر بسبب الصراع الايراني – العثماني الدموي من أجل السيطرة على المنطقة، وفي مقدمها أذربيجان. كذلك باشر حكام ايران اتباع سياسة
التهجير القسري للعناصر غير الفارسية (الكرد، الأرمن، الترك، العرب)، وذلك في عهد الشاه الايراني عباس الاول. وقد سبب الضرائب الكبيرة والاتاوات المتنوعة المفروضة من قبل الحكومتين فقراً مدقعاً للسكان جميعاً، خصوصاً للكرد والارمن والجورجيين (الكرج) والافغان والعرب وشعوب البلقان. وبدورها أدت تلك الأوضاع الى انتفاضات وتمردات على الولاة والحكام داخل الدولتين، وفي اوقات مختلفة كانت كل دولة تدعم الحركات والمقاتلين وتثير القلاقل في البلاد الاخرى. فالاتراك دعموا الأذريين ضد السلطات الايرانية، والايرانيون دعموا القبائل الكردية في مناطق نفوذ الاتراك. وهذه العملية السياسية الملتوية راحت تمارس لقرون عدة من قبل الدولتين، وهي لا تزال تمارس بين البلدين، مشكلة إحدى النقاط الرئيسية للخلاف الايراني – التركي الحالي.
وصادر النزاع بين الدولتين لم تقتصر على أذربيجان ولا على المناطق الاوسع المجاورة لها في القفقاس أو مناطق آسيا الوسطى او الشرق الاوسط، كما ان اطراف النزاع نفسه كبيراً ما شمل، إضافة الى ايران وتركيا وخصوصاً بدءاً من القرن التاسع عشر دولاً اخرى في مقدمها روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.
فلصراعات كانت تؤجج، احياناً، بدفع من الروس الذين أثاروا الايرانيين ضد الاتراك الموالين للألمان. وضم الروس أراضي ايرانية واسعة الى ملكهم كمناطق قره باغ (ساحة الصراع الحالي بين الارمن والأذريين) وباكو وبحر الخزر وجورجيا وداغستان، وفق معاهدة كلستان في ٢٧ ايلول ١٨١٤، لقاء دعم الروس الايرانيين في حربهم مع الاتراك (للمزيد من الاطلاع على الاطارين التاريخي والجغرافي لأذربيجان ومنطقة القوقاز، راجع ايفاريا وارمينيا).
في القرن العشرين
في مطلع القرن الحالي، مرت العلاقات الايرانية - التركية بمرحلة هدوء نسبي تلت ثورة «تركيا الفتاة» وسقوط السلطان عبد الحميد الثاني في اعقاب انقلاب عسكري في تموز ١٩٠٨. وبحسب حجب التاريخ السياسي الايراني، تزامن هذا الهدوء مع وصول العائلة البهلوية (رضا شاه ثم نجله محمد رضا) الى الحكم في ١٩٢٥، واستمر حتى الثورة الايرانية في شباط ١٩٧٩، ورجوع الامام الخميني من منفاه. اما في تركيا، فكان سيد المرحلة مصطفى كمال اتاتورك الذي انهى السلطنة وأسس للتقاليد الجمهوري في بلاده. واساس هذا التقليد، على صعيد السياسة الخارجية، القرب من الغرب.
والجديد (خلال السنوات الاخيرة حتى اليوم – اواسط ١٩٩٣) في المعادلة العدائية التاريخية بين ايران وتركيا، فهو الموقف الاميركي والغربي المساند لتركيا، العضو في حلف الأطلسي (الناتو)، على رغم اغلاق الولايات المتحدة ثاني قواعد من اصل ١٢ قاعدة عسكرية في تركيا العام ١٩٩٢. وهذا التاييد نابع من الوقوف في وجه التوجهات الاصولية المتمثلة بتصدير الثورة (خصوصاً الثورة الاسلامية في ايران) وزعزعة النظام الحاكم على امل إسقاطها. كما هي الحال مع مصر ولبنان والجزائر وتونس والخليج، وبشكل خاص مع تركيا. وهذا ينطوي، بين ما ينطوي عليه، على استعادة ايام التاخر النامي الطويل بين الامبراطوريتين الفارسية (الشيعية) والعثمانية التركية (السنية). من اجل اراحة تركيا من عملية الهيمنة والنفوذ داخل الجمهوريات الاسلامية في آسيا الوسطى، تلك الايام التي سلمت من قبل ملوك فارس الى بيطسبروغ خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لقاء كسب
الروس الى جانبهم في حروبهم التاريخية مع العثمانيين.
ورداً على جانبهم، ومن موقع اصطفافها الى جانب الغرب، تحركات ايران، خاصة داخل تركيا نفسها وفي لبنان وجمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية (قيرغيزستان، تركمنستان، أوزبيكستان، کازاخستان وطاجيكستان)، وتعمل على افشال الخطة الايرانية في طاجيكستان التي تشهد حرباً أهلية طاحنة بين الشيوعيين القدامى والتحالف الاسلامي – الديمقراطي، وعلى المناطق الاوسع المجاورة لها في القفقاس او مناطق آسيا الوسطى او الشرق الاوسط، كما ان اطراف النزاع نفسه كبيراً ما شمل، إضافة الى ايران وتركيا وخصوصاً بدءاً من القرن التاسع عشر دولاً اخرى في مقدمها روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.
وكدليل على عمق هذا الخلاف التاريخي الايراني – التركي دعم ايران الخفي لجمهورية ارمينيا (المسيحية) في صراعها على منطقة قره باغ مع جمهورية أذربيجان (المسلمة)، اذ تمكنت ارمينيا من ضمها الى حدودها الجغرافية، فيما فشلت جهود انقرة لضم المنطقة المتنازع عليها بين الارمن والأذريين الى أذربيجان. وتوجه ايران الاتهامات الى الحكومة التركية لتناغمها (بل دعمها) مع تنظيمات القوميين الأذريين في ايران الذين يشكلون حوالي ثلث سكان ايران، والحالمين بالوحدة مع بقية مناطق أذربيجان المقسمة. إذ سبق ان تلقى القوميون الأذريون في ايران، خلال عامي ۱۹۷۹ – ۱۹۸۰، «والمساعدات المعنوية» من حكومة أنقرة أثناء سيطرتهم بالسلاح، لأيام، على مدن أذربيجان الايرانية وتبريز مركز المقاومة. يومها، أدى هذا الى اعدام عدد من قادتهم القوميين وهروب الالوف منهم الى تركيا وفرض الاقامة الاجبارية على الزعيم الروحي للأذريين في العالم، آية الله العظمى السيد كاظم شريعتمداري. وجدير بالذكر ان معاملة مماثلة عاشها الكرد (الاكراد) الايرانيون خلال تلك الفترة ايضاً، فاتهموا بأنهم يساندون الأذريين في تحركاتهم، اشارة الى التعاون الذي حصل بينهم في ايران بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتشكيل جمهوريتي مهاباد الكردية (١٩٤٦)، وأذربيجان الشيوعية في تبريز (١٩٤٥).