كيف ظهرت الإمبراطورية البيزنطية وكيف تلاشت؟

 








الإمبراطورية البيزنطية تعد استمرارًا للإمبراطورية الرومانية. وعرفت أيضًا باسم الإمبراطورية الرومانية الشرقية؛ لأنها حكمت ما يشكل القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية. وقد اشتملت الإمبراطورية البيزنطية خلال القرن السادس الميلادي - وهي الفترة التي وصلت فيها إلى أكبر اتساعها - على أجزاء من جنوبي أوروبا وشرقيها وإفريقيا الشمالية، والشرق الأوسط.

قامت الإمبراطورية البيزنطية بعدة أدوار مهمة في التاريخ. فقد حمت القسم الأكبر من أوروبا من هجمات القبائل البربرية الجرمانية ووقفت في وجه الفاتحين الشرقيين، العرب والأتراك. وحافظ البيزنطيون على الأدب والفلسفة الإغريقية القديمة. كما حافظوا على التقاليد الحكومية والتشريعية الرومانية. ازدهرت في الإمبراطورية البيزنطية كل من النصرانية والثقافة الإغريقية، والتقاليد الرومانية، الأمر الذي يربط ما بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة.

أطلق سكان الإمبراطورية البيزنطية على أنفسهم اسم الرومان. وكلمة بيزنطي جاءت من كلمة بيزانتيوم (بيزنطة)، الاسم الإغريقي لمدينة تقع على البوسفور، وهو مضيق يشكل جزءًا من الممر المائي الذي يربط البحر

الأسود بالبحر المتوسط. نقل الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير، سنة ٣٣٠م، عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطة، (مدينة إسطنبول الحالية في تركيا)، والتي أطلق عليها اسم القسطنطينية بعد موت قسطنطين. ويرى بعض المؤرخين أن الإمبراطورية البيزنطية قد بدأت في تلك السنة، أي عام ٣٣٠م. في حين يرى آخرون أنها بدأت سنة ٣٩٥م، وهي السنة التي انقسمت فيها الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطوريتين هما الإمبراطورية الرومانية الغربية والإمبراطورية الرومانية الشرقية. وزالت الإمبراطورية البيزنطية بعد أن فتح الأتراك العثمانيون مدينة القسطنطينية سنة ١٤٥٣م.

أنماط المعيشة

السكان. انحدر سكان الإمبراطورية البيزنطية من شعوب قديمة مختلفة. وعاش عدد كبير من الأرمن والسلاف في مناطق نائية من الإمبراطورية. اشتملت الطبقة العليا في القسطنطينية على الأرمن والبلغار والإغريق والنورمان والأتراك. وتكلم البيزنطيون اللغة اليونانية. كانت أغلبية البيزنطيين من المزارعين الفقراء الذين كانوا يعيشون في أكواخ من غرفة واحدة بنيت من الخشب أو اللبن. وكانت معظم بيوت القسطنطينية من الخشب. ولكن الأغنياء عاشوا في قصور مبنية من الحجارة، وكان يشتمل عدد كبير منها على فناء مغلق. وكان العمال في الإمبراطورية يرتدون القمصان القصيرة، وهي قمصان ضيقة، قصيرة الأكمام تبلغ الركبتين، منسوجة من الصوف أو الكتان. أما الطبقات العليا فقد ارتدت الأردواب الطويلة المصنوعة من الحرير الفاخر المزين بزخارف بارزة.

كانت التقاليد البيزنطية تقضي بأن تعيش النساء في عزلة جزئية، وتخصص لهن في البيوت الكبيرة أجزاء

خاصة بهن. وكانت معظم النساء يمضين أوقاتهن في تأدية الواجبات المنزلية. إلا أن بعضهن كن يتلقين تعليمًا.

وحكمت النساء الإمبراطورية في أوقات متعددة. وكانت الإمبراطورة ثيودورا وهي زوجة جستنيان الأول واحدة من أكثر النساء نفوذًا في الإمبراطورية. وقد أثرت على سياسة زوجها، واستخدمت سلطتها لرفع أصدقائها وسحق أعدائها. انظر: ثيودورا.

أدى الدين دورًا مهمًا في حياة البيزنطيين. فقد تتفرد قسطنطين، وشجع رعاياه على التنصر وأصبحت النصرانية في عهد ثيودوسيوس الأول الذي اعتلى العرش في سنة ٣٧٩م الديانة الرسمية للدولة. نشر المنصرون البيزنطيون النصرانية في شتى أرجاء الإمبراطورية، ونصروا الكثيرين من الروس والشعوب السلافية الأخرى. وما زالت الكنائس الأرثوذكسية الشرقية إلى اليوم تتبع التقاليد الدينية البيزنطية.

الحياة الثقافية. كانت القسطنطينية مركزًا ثقافيًا للإمبراطورية البيزنطية، وفيها كان يدرس اللغة اليونانية القديمة، قراءة وكتابة. أولئك الذين سيصبحون موظفين في الحكومة. وتختلف هذه اللغة التي كانت تستخدم للأغراض الرسمية، عن اللغة اليونانية المبسطة التي كان يتكلم بها معظم البيزنطيين. وقد وضع البيزنطيون مؤلفات تاريخية ذائعة الصيت وشعرًا رائعًا يشتمل على قصائد دينية.

الحياة الاقتصادية. عاش معظم سكان الإمبراطورية البيزنطية في القرى، وزرعوا الكروم والزيتون والقمح، أو رعوا الأغنام. وزاول التجار والحرفيون مهنهم في المدن والحواضر الكبيرة. استورد البيزنطيون الحرير والتوابل والسلع والكماليات من الصين، والفراء والعبيد والخشب من أوروبا الغربية. واحتلت القسطنطينية مركزًا تجاريًا مرموقًا بسبب موقعها النموذجي على البوسفور ومينائها الرائع.

أصبحت المنسوجات الحريرية صناعة بيزنطية مهمة، خلال القرن السادس الميلادي، عندما أدخلت دودة القز إلى الإمبراطورية. وصدرت هذه المنسوجات من القسطنطينية، إلى جانب العاج المنقوش، والطلاء والأواني الزجاجية، وأبواب الكنائس المصنوعة من البرونز.

نظام الحكم. كان الإمبراطور، الحاكم المطلق والمشرع الوحيد للإمبراطورية البيزنطية. وكان للحكومة في ظل الإمبراطور نظام محكم من إدارات متخصصة، بها عدد كبير من الموظفين المدنيين والعسكريين. وهيمنت الحكومة على كل ناحية من نواحي الحياة تقريبًا. فكانت، مثلاً، تنظم أمور الصناعة والتجارة تنظيمًا دقيقًا للغاية. كما كان

لها أيضًا نفوذ كبير على رجال الكنيسة. وكان يفرض على السكان ضرائب باهظة لدعم الحكومة.

نبذة تاريخية

البداية. أسس الإغريق بيزنطة في أواسط القرن السابع قبل الميلاد. وأصبحت جزءًا من الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني قبل الميلاد. وفي سنة ٣٠٦م، أصبح قسطنطين إمبراطورًا على النصف الغربي من الإمبراطورية الرومانية. وفي سنة ٣٢٤م، أصبح إمبراطورًا على الإمبراطورية كلها. وفي سنة ٣٣٠م، جعل قسطنطين بيزنطة عاصمة للإمبراطورية، لأن القسم الشرقي منها كان قد أصبح أكثر أهمية من القسم الغربي. وقد أعيد تسمية العاصمة باسم القسطنطينية.

بعد موت الإمبراطور ثيودوسيوس سنة ٣٩٥م، انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين. وقد سيطر الغزاة الجرمان، تدريجيًا، على القسم الغربي منها خلال السنوات الأولى من القرن الخامس الميلادي. وانهار هذا القسم، الذي دعي بالإمبراطورية الرومانية الغربية، في سنة ٤٧٦م.

الإمبراطورية في ظل جستنيان. بلغت الإمبراطورية البيزنطية أقصى اتساعها في عهد جستنيان الذي حكم ما بين عامي ٥٢٧م و ٥٦٥م. وكان جستنيان قد وطد العزم على استرداد عظمة الإمبراطورية الرومانية باستعادة

أراضيها في الغرب. فتم استرداد إيطاليا بما فيها روما على يد قائده بليزار بليزار باريوس. كما اتسعت الإمبراطورية بضم آسيا الصغرى (تركيا الحالية) وشبه جزيرة البلقان ومصر وشمالي إفريقيا وفلسطين والساحل الجنوبي لأسبانيا وسوريا. ولسوء الحظ كان جستنيان حاكمًا كثير الشكوك، يخشى من بعض القادة أمثال بليزار يوس أن ينافسوه على السلطة. وكان بليزار يوس، في الحقيقة أكثر الرعايا ولاء للإمبراطور. وقد ساعدت بطولته وبسالته في ميدان القتال على رسم صورة لعهد جستنيان كعصر ذهبي في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية.

سن البيزنطيون، في عهد جستنيان، قوانين كثيرة من قوانين الرومان القدماء. وأصبحت هذه المجموعة من القوانين معروفة باسم قانون جستنيان، وما زالت تتشكل منذ ذلك الحين حتى الآن، أساس النظم التشريعية في بلاد كثيرة. انظر: جستنيان، مدونة. وبنى جستنيان أيضًا كنيسة أيا صوفيا التي تعد أضخم كنيسة في الإمبراطورية. ازدهرت التجارة خلال عهد جستنيان، كما ازدهر الفن والعمارة البيزنطية. ولكن الموارد المالية للإمبراطورية نفدت بسبب التكاليف الباهظة للحروب والإصلاحات التي جرت في عهد جستنيان، ونتيجة ذلك كانت الإمبراطورية في حالة من الإفلاس عند موته سنة ٥٦٥م.

الغارات والانتصارات. كان البرابرة الأوروبيون، في حياة جستنيان، قد غزوا الإمبراطورية من كل الجبهات. واستولى اللومبارديون الذين جاءوا من ألمانيا على أجزاء من إيطاليا، وهاجم السلاف والآفار شبه جزيرة البلقان. كما

أضعفت الغزوات الفارسية الإمبراطورية خلال أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الميلاديين. وقد نجح هرقل - الذي أصبح حاكماً سنة ٦١٠م - في وقف انهيار الإمبراطورية إلى حين، وذلك بهزيمته للفرس.

فتحت المسلمون أراضيها الشرقية. وقد أتت على سيادة سنة ٦٤٢م. وقد فتحوا كلاً من سوريا وفلسطين ومصر بغرض نشر الإسلام وتعاليمه. وفي أوائل القرن الثامن الميلادي، كانت الإمبراطورية البيزنطية تقتصر على آسيا الصغرى، وساحل البلقان، وكريت، وجزرًا إفريقية أخرى، وجنوبي إيطاليا وصقلية.

حاول الأباطرة البيزنطيون خلال القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلاديين إلغاء عبادة صور المسيح والقديسين، وذلك فيما يعرف بمحاربة الأيقونية. وعارضت كنائس القسم الغربي من الإمبراطورية هذا الإجراء. وقد مرق هذا النزاع بالإمبراطورية إلى حد كبير. انظر: محطم الأيقونات.

تدهور الإمبراطورية وسقوطها. بدأت الإمبراطورية البيزنطية في التدهور ثانية خلال القرن الحادي عشر الميلادي، ففي سنة ١٠٧١م، كان النورمان قد فتحوا جنوبي إيطاليا، واجتاح الأتراك السلاجقة آسيا الصغرى، وطلب الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومنينوس الذي اعتلى العرش سنة ١٠٨١م المساعدة من نصارى أوروبا الغربية، للدفاع عن الإمبراطورية ضد الأتراك السلاجقة. وكان هؤلاء قد سيطروا على الأراضي المقدسة وهددوا الإمبراطورية البيزنطية كذلك. وأصبحت الحملات العسكرية التي قام بها نصارى أوروبا الغربية على الأراضي المقدسة تعرف باسم الحروب الصليبية. وخلال الحملة الصليبية الأولى، التي بدأت في عام ١٠٩٦م وانتهت في عام ١٠٩٩م، استولى الصليبيون على المناطق الساحلية من الأراضي المقدسة.

وأدت الحملات الصليبية اللاحقة إلى ازدياد التوتر والبغضاء بين البيزنطيين ونصارى غربي أوروبا. وكان لهذه العداء الدينية، خلال الحملة الصليبية الرابعة سنة ١٢٠٤م. الدور الرئيسي في استيلاء جيوش الغرب على القسطنطينية، إلى جانب كبار المأجورين، إلى رغبة تجار مدينة البندقية الإيطالية في الهيمنة على التجارة في الشرق الأوسط. وأقام البنادقة والصليبيون إمبراطورية حديثة وسيطروا على مقاليد الحكم في القسطنطينية، ونجح بعض رجال البلاط من البيزنطيين المهجرين، في تأسيس قواعد عميقة في آسيا الصغرى واسترداد القسطنطينية سنة ١٢٦١م. ولكن سرعان ما فتح المسلمون بقيادة الأتراك العثمانيين آسيا الصغرى واستولوا على أجزاء منها، كما تقدم الضرب

في البلقان، في حين أضعفت الحروب الأهلية أركان الإمبراطورية.

في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، لم يكن قد بقي في حوزة الإمبراطورية البيزنطية سوى القسطنطينية وجزء من بلاد اليونان. وسقطت عندما استولى الأتراك العثمانيون عليها سنة ١٤٥٣م. ومات آخر إمبراطور بيزنطي، وهو قسطنطين الحادي عشر، بينما كان يدافع عنها. وسقطت طرابزون - وكانت المعقل الأخير للسلطة الإغريقية - بيد الأتراك العثمانيين سنة ١٤٦١م.

تعليقات