الهجانة
يقصد و بالهجانة ، القطعات أو القوات التي تستخدم الابل كوسيلة في حربها ؛ وبما ان الصحراء
هي المجال الطبيعي لحياة الابل فقد كانت و حروب الهجانة ، محدودة بالصحارى . وكان استخدام الابل يغلب عليه الطابع الاداري و للنقل والامداد ، أكثر مما يغلب عليه طابع الحرب والخوض في القتال ؛ ولو ان هناك بعض الحالات التي أمكن فيها استخدام الهجانة ، كقوات محاربة .
كان الفرس - بحسب المصادر التاريخية المتوافرة - هم أول من استخدم قطعات من الهجانة في الحرب ضد « قارون » آخر ملوك الميديين ( ٥٦٠ - ٥٤٦ ق . م ) ، وقد أغرت ثروة قارون وغناه الكبير الفرس فحاربوه وانتصروا عليه ، واستخدموا قطعات من الهجانة ضد البدو في صحارى سورية والجزيرة العربية . وعندما سيطر الاسكندر على سوريا ( ۳۳۳ ق . م ) نظم البلاد ؛ وضم في جيشه ( قوات من العرب على ابلهم ؛ رماحهم طويلة لكي تصل الى المشاة رغم ارتفاع المطية ) ( وبالاستناد الى الوثائق المعروفة بالأعمال اليومية - وهي السالفة لما نعرفه اليوم باسم الوقائع اليومية والتي عثر عليها في موقع « دورا - أورومبوس ) كان تعداد الكتيبة العشرين التدمرية ثمانمائة من المشاة ، ومئتين وعشرين من الخيالة ، وثلاثين جمالاً ؛ ومنذ انتشار تربية الخيول واستخدامها بين القبائل الكبرى البلدية في سورية وبلاد ما بين النهرين اشترك المحاربون في بعثات حربية الى مسافات محدودة ؛ أصبح الجمل وسيلة النقل الأساسية التي يستخدمها المحاربون في حركاتهم وتنقلاتهم والحصان اداة القتال . وكان يحدث ان ينحر الجمل المسن لاستخلاص الماء من جرابه لسقاية الخيل ؛ واطعام لحمه للمقاتلين ) ويتأكد هذا الاستخدام للابل منذ بداية الصراع الاسلامي ، ففي موقعة بدر الكبرى كان عدد الابل في قوات المسلمين ۷۰ تقريباً مقابل ٣٥٠ مع المشركين؛ وكان المشركون ينحرون كل يوم ٩ أو ١٠ من الابل لاطعام المقاتلين . وعندما اجتاز خالد بن الوليد صحراء الشام في مسيرته الكبرى من العراق الى الشام اصطحب معه من الابل ما يكفي الإرواء الخيول واطعام المقاتلين . ولكن قوات المسلمين استخدمت الابل في اليوم الثاني من معركة
القادسية « يوم أغوات » حيث عمل القعقاع بن عمرو التميمي على اكساء الجمال بهدف ارهاب فرسان الفرس ، فكان تأثير الجمال على خيول الفرس اكبر من تأثير الفيلة على خيول المسلمين . ولكن هذا الاستخدام بقي محدوداً ؛ واستمر اعتماد العرب على الخيول كوسيلة اساسية لتطوير حرب الحركة .
لقد كانت حروب المسلمين بمثابة مسيرات طويلة ؛ ولهذا أتقن العرب المسلمون تنظيم ارتال المسير ؛ ووصفوا الأسس الصارمة لضمان تدابير الأمن والحيطة . وكان للهجانة دور اساسي لاسيما بعد المرحلة الأولى من الفتوحات . فقد أصبح ترتيب سير القوات العربية يتألف من مقدمة وقوات رئيسية ومؤخرة . أما المقدمة فكانت تتألف من خيالة خفيفة تندفع الى الامام المسافة بضع كيلومترات وترسل منها مفارز استطلاع لدراسة الأرض ورصد حركات العدو ؛ وكانت الخيالة الثقيلة تتحرك على رأس القوات الرئيسية وتغطي نفسها من الجوانب بمفارز النبالة المترجلة التي كانت قادرة على ملاحقة الخيالة الثقيلة حتى في ظروف المسير القهري ؛ وكان المشاة يسيرون خلف الخيالة الثقيلة ، وتسير الجمال المحملة بالمؤن والذخائر والخيم في منتصف ترتيب المشاة ؛ ثم تتلوها الجمال المحملة بأدوات الحصار والاقتحام والمستشفى ؛ وفي الخلف يسير حرس المؤخرة لحماية مؤخرة الرتل . وادخلت القوات الاسلامية المستشفى الميداني في صفوفها منذ مطلع القرن التاسع وقوام هذا المستشفى كان من جمال مجهزة تجهيزاً خاصاً لنقل الجرحى والمرضى واخرى كانت تحمل الخيم والأدوات الطبية ورجال الصحة .
واستخدم المسلمون الجمال على نطاق واسع في الحروب ضمن وحدات المشاة والخيالة . وكانت الجمال بالفعل خير وسيلة للتنقل في الصحراء ؛ اذ كانت عندما تهب العاصفة تناخ على الأرض ؛ فتشكل ستاراً حياً يقي أصحابها العاصفة ؛ وكان تسليح المحاربين الراكبين على الجمال يعتمد اساساً على الرمح الطويل وبقيت واجبات الهجانة محددة في هذا الاطار ، ولم يستخدم العرب قوة الهجانة كقوة
ايجابية إلا في موقعة الزلاقة ( عام ٤٧٨ هـ = ١٠٨٥ م ) حين سمح يوسف بن تاشفين بعبور الجمال الى جزيرة الاندلس ؛ فعبر منها ما غصت به الجزيرة ؛ وارتفع رغاؤها الى عنان السماء ؛ ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملاً قط ولا خيلهم ايضاً ، فصارت الخيل تجمع من رؤية الجمال ومن رغائها ؛ وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب ، فكان يحيط بها عسكره ؛ ويحضرها للحرب ؛ فكانت خيل الفرنج تجمع منها . وبقي استخدام الهجانة محصوراً بمجال الصحراء ؛ ولم يظهر الدور العسكري لهذا الاستخدام بمثل ما ظهر بعد ذلك في الثورة العربية التي قادها ( فيصل ) ( حيث كانت الحرب في الصحراء تدور بين رجال يرون وأحياناً يلمس بعضهم بعضاً ؛ رجال يجابهون الطائرات والرشاشات من على ظهور الجمال ؛ حرب بين الشجاعة والصبر من جهة ، وبين التدريب والتنظيم من جهة أخرى ) . وعلى الرغم من عدم معرفة تفاصيل دور قوة الهجانة ؛ الا ان من المعروف ان هناك قوة انطلقت من الجزيرة العربية في 9 أيار - مايو ۱۹۱۷ وهي مكونة من ثلاثين رجلا يركبون الجمال في اتجاه العقبة بهدف الاستيلاء على هذا الميناء وتأمين الاتصال مع القوات المصرية . وفي ۱۰ حزيران - يونيو وصل حجم هذه القوة الى ٥٠٠ رجل هجموا على العقبة واستولوا عليها دون خسائر تذكر ؛ في حين تكبد الاتراك خسارة قدرها ۳۰۰ قتيل و ١٦٠ اسيراً ؛ وكانت المباغتة العامل الأول في نصر قوة الهجانة .
وفي كانون الثاني - يناير ۱۹۱۸ كان جيش فيصل ، يضم بين صفوفه ۳۰۰ رجل من الهجانة وقد استقرت هذه القوة في دمشق التي دخلتها في ٣٠ أيلول - سبتمبر ۱۹۱۸ . وعندما اعيد تنظيم الجيش العربي ؛ اعطيت قوة الفرسان الأفضلية الأولى ؛ لكن قوة الهجانة لم تهمل تماماً . وعندما احتل الافرنسيون والبريطانيون بلاد الشام وقسموها ؛ عمل الافرنسيون على تكوين قوة من الهجانة مهمتها حفظ الأمن في المناطق الصحراوية ؛ وكذلك كان البريطانيون قد فعلوا في مصر عندما انشأوا قوة
للهجانة أطلقوا عليها اسم « حرس الحدود » . وكانت قوة الهجانة تعتمد على « الجمال » كوسائط للنقل ، ثم أخذت الآليات في اقتحام مجال عمل الهجانة وبذلك بدأ الاعتماد تدريجياً على المركبات الخفيفة « سيارات الجيب » والمركبات المدرعة الخفيفة « المصفحات » . ولقد حافظت قوات الهجانة بعد ذلك على هذا التوازن إلا أن دورها أخذ في الانحسار أمام القوات الكبيرة والتي ضمنها التقدم الالي « الميكانيكي » . وقد احتفظت بعض الأقطار العربية بالهجانة « بعد استقلالها » ولكن تطور القوات الآلية وتوافر امكانات الطيران العمودي « الهيليكوبتر » أزال نهائياً دور الهجانة كقوات أمن في الصحراء . ولم يعد للهجانة في الواقع دور يتجاوز حدود « المراسم » و « الاستعراضات » .