كيف ساهمت التضاريس في صنع تاريخ العراق والجزيرة العربية وسوريا ومصر

 









الهلال الخصيب

الهلال الخصيب وشبه جزيرة العرب

يصح اعتبار الهلال الخصيب من الناحية الجيولوجية - الطوبغرافية جزءاً أو امتداداً لشبه جزيرة العرب ، واليك بعض الصلات الجيولوجية القائمة بينهما .

1 - ان الطبقات الكلسية البيضاء التي تتألف منها اواسط الجزيرة المعروفة بالحماد تمتد الى بادية الشام .

٢ - ان السلاسل الشرقية في الشام تمتد على طول الساحل الغربي من الجزيرة العربية ، ومن أوجه الشبه بين السلسلتين وجود الخرات في كلتيهما .

٣ - ان حفرة الانهدام التي تتخلل بلاد الشام من الشمال الى الجنوب تعتبر تتمة حفرة البحر الاحمر الشمالية .

٤ - ان العراق ( ما عدا السهل اللحقي في الجنوب ) هو تتمة المنحدر الشمالي - الشرقي لشبه جزيرة العرب .

٥ - ان النفط الذي اكتشف حديثاً بكثرة في الجزء الشرقي من الجزيرة لدليل آخر على القرابة الجيولوجية بينها وبين الهلال الخصيب .

ومن الطبيعي ان تؤدي تلك الصلات الطوبغرافية الى صلات بشرية كان ابرزها الصلات الاتنية . فشبه جزيرة العرب هي ما على يرجح علماء الساميات مهد الشعوب السامية التي نزحت عنها ابتداء من منتصف الألف الرابع قبل الميلاد على موجات متوالية انتهت بالموجة العربية الاسلامية في القرن السابع للميلاد . فاستوطن البابليون والآشوريون والكلدانيون العراق والجزيرة اي الجناح الشرقي من الهلال . واستوطن الأموريون والكنعانيون ( والفينيقيون ) والاراسيون والعبرانيون بلاد الشام اي الجناح الغربي منه . وكانت كلما استقرت موجة من تلك الموجات في

اراضي الهلال الخصيب تأخذ بأسباب الحضارة ، ثم لا تلبث ان تنصهر في بوتقته الجنسية وتقطع صلاتها بالوطن الأم . ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الموجة الأخيرة ، أي الموجة العربية الاسلامية التي حافظت على صلاتها بموطنها الأصلي ، وكان من الطبيعي ان تفعل ذلك لأن الاسلام اصبح مذهب الكثرة من سكان الهلال الخصيب ، وكانت الجزيرة العربية مهداً له ، فضلا عن ان هذه الموجة لم يقتصر امتدادها على الهلال بل تجاوزته الى غيره من البلدان المجاورة .

ان التقارب الطوبغرافي بين شبه جزيرة العرب وبين الهلال الخصيب هو العامل الايجابي في رحيل الموجات السامية عن المنطقة الأولى الى الثانية . اما العامل السلبي فهو ذلك التفاوت في الخصب والحضارة بين المنطقتين . فإذا قارنا بين جفاف الجزيرة العربية وجدبها وطرق الحياة البدائية فيها وبين خصب الهلال وحضارته وادركنا ما في ذلك الخصب وتلك الحضارة من اسباب الاغراء ، اتضحت لنا العوامل التي اهابت بالشعوب السامية الى الهجرة . هذه العوامل نفسها حفزت الأقوام الجبلية غير السامية للقدوم الى الهلال الخصيب من الشمال والشرق .

الهلال الخصيب والبحر المتوسط

ان اهم ما يتميز به الهلال الخصيب عن شبه جزيرة العرب هو وفرة الامطار التي تحملها الرياح الجنوبية - الغربية من البحر ، وبعض الرياح ينفذ الى شمالي - شرقي العراق ويروي اراضيه في فصل الشتاء ويزيد في هطول الأمطار في الجناح الغربي من الهلال جبال لبنان وسائر السلاسل الغربية حيث يبلغ معدل المطر الف ملم سنوياً . وهو يتناقص كلما اتجهنا شرقاً نحو البادية . وللجبال الشرقية والشمالية ( زاغروس وطوروس ) المطوية تأثير كبير في اجتذاب المطر . لذلك نرى ان خطوط المطر المتساوية تظهر على الخارطة هلالية الشكل وموازية للجبال التي تحيط بالهلال . والموصل بالرغم من بعدها عن البحر تعادل فيما تتناوله من المطر دمشق او حلب . غير ان خطوط المطر هذه لا تمتد الى العراق الاسفل بل تحيد عنه شرقاً

الى جبال البختياري وفي هذا دليل على قلة المطر في العراق الاسفل . وما ذلك الا لأن هذا القسم من العراق هو اقل تأثراً بمناخ البحر المتوسط من القسم الأعلى . فبين العراق الاسفل وبين البحر المذكور حاجز ثلاثي يتألف من السلاسل الجبلية الشامية وحفرة الانهدام والبادية .

ومثلما يتناقص تأثير البحر المتوسط المناخي كلما اتجهنا من الساحل الى الشرق كذلك يتناقص تأثيره الحضاري في الاتجاه نفسه . فالهلال الخصيب ظل ردحاً من الزمن ولا يزال الى اليوم معرضاً لتيارين حضاريين متعاكسين : تيار البادية والجبال الشرقية والشمالية من جهة وتيار البحر المتوسط من جهة اخرى . والفروق في مستوى الحضارة وطرق الحياة بين الساحل والداخل مردها الى التماس الموجود بين الساحل والبحر المتوسط من جهة وبين الداخل والبادية من جهة اخرى . على ان طغيان البادية على داخل البادية لم يكن ليقوى لولا ضعف بعض الحكومات التي تعاقبت على الحكم فيه فنجم عن ضعفها وعن اضطراب حبل الأمن في البلاد ان اهملت الأراضي الزراعية المتاخمة للبادية واصبحت جزءاً منها . وفي الجزيرة السورية تلال كثيرة تتألف من ركام المدن القديمة ، وقد اقفرت اليوم من السكان وسائر مظاهر العمران .

ومما يجدر ذكره ان البحر يسهل الاتصال مع الخارج في ايام السلم ويمنعه في ايام الحرب . ومع كل الفتوحات التي تعاقبت على الهلال الخصيب منذ فجر التاريخ حتى اليوم لا يتجاوز عدد الفاتحين الذين جاءوا هذه البلاد بحراً عدد اصابع اليد الواحدة . حتى الفاتحون الاوروبيون كان عليهم ان يأتوا من الشمال عبر الثغور الجبلية او من الجنوب عبر صحراء سيناء .

الهلال الخصيب ومصر

يمكن اعتبار مصر جزءا من الهلال الخصيب بالرغم من انفصالها عن بلاد الشام بصحراء سناء . وسواء اوافقنا على هذا ام لم نوافق فمما لا ريب فيه ان تاريخ

مصر مرتبط بتاريخ بلدان الهلال الخصيب أكثر من ارتباطه ببلدان افريقيا . والواقع ان الأقدمين ظلوا يعتبرون مصر جزءاً من آسيا الى ايام البطالسة اليونانيين عندما اقدم بحارة هؤلاء على جوب البحر الأحمر على نطاق واسع وعرفوا العالم بذلك الفاصل المائي بين مصر وبلاد العرب .

أما ان مصر كانت جزءاً من آسيا ومتصلة بشبه جزيرة العرب قبل حدوث حفرة الانهدام فأمر مرجح عند الجيولوجيين .

واذا نظرنا في وضع مصر من البحر المتوسط نرى بشيء من الدهشة ان تاريخ مصر وثقافتها لم يتأثرا بتاريخ ذلك البحر بالقدر الذي قد يتبادر الى ذهن الكثيرين ممن ليس لهم المام كاف بجغرافية مصر . أن تأثير الموقع ليس كتأثير المناخ ، وقيام بلد ما على شاطيء البحر المتوسط ليس كافياً بحد ذاته لأن يعطي ذلك البلد مناخاً متوسطياً وبالتالي حيوانا ونباتا متوسطيين . فالعبرة ليست في الموقع بل في التعرض للرياح الجنوبية - الغربية الحاملة المطر ، ومصر ابعد الى الجنوب من ان تحظى بتلك الرياح . فالاسكندرية وهي اوفر المدن المصرية مطرا لا يتجاوز معدل المطر فيها المئتي ميلمتر بينما ينعدم المنطر أو يكاد في مصر العليا .

وهناك عامل آخر حال ولا يزال يحول دون الاتصال الوثيق بين مصر والبحر المتوسط وهو وجود الحواجز القائمة عند مصب النيل من مسطحات غرينية ومستنقعات وحواجز رملية مما يعرقل الملاحة ويجعل النفوذ من البحر الى النهر غاية في الصعوبة . وهذا ما يفسر وحدانية مرفأ الاسكندرية على الشاطيء المصري الشمالي واعتماد المصريين القدماء على الملاحين الاجانب من فينيقيين ويونان وعرب في تجارتهم الخارجية . ولما كان التفاعل الثقافي بين بلد واخر يتوقف الى حد بعيد على سهولة المواصلات بينهما وسائر علاقاتهما الجغرافية ، فالثقافة المصرية لم تتفاعل مع ثقافة البحر المتوسط بقدر ما تفاعلت معها الثقافة السورية .

يقسم بعض علماء الجغرافية التاريخية تاريخ

الحضارة الى ثلاثة اطوار اقدمها الطور النهري حين اقتصرت المدنية على اودية الأنهر الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات . ويليه الطور البحري الذي يبتدىء بمجيء اليونان وفيه انتقل محور الحضارة الى حوض البحر المتوسط ثم الطور الأوقيانوسي الذي نتج عن الاكتشافات الجغرافية التي قام بها المستكشفون البرتغاليون ابتداء من القرن الخامس عشر .

في الطور الأول كانت الحضارة مقتصرة على مصر والهلال الخصيب لا سيما الجناح الشرقي منه اي العراق حيث يجري دجلة والفرات . فقد تعادل القطرات في الثقافة ويمثلان كفتي الميزان في العراك السياسي والحربي العالمي . الأولى تمثل قوة الغرب والثاني يمثل قوة الشرق كما تفعل الولايات المتحدة وروسيا السوفييتية اليوم . ولكن في الطور الثاني لما انتقل محور الحضارة الى البحر المتوسط وافل نجم الشرق ، ظلت سورية بفضل طبيعتها المتوسطية الأصلية اكثر تماساً بحضارة البحر المتوسط من جارتها مصر .

الهلال الخصيب والجبال الشمالية والشرقية

يحد الهلال الخصيب من الشمال وتفصله عن الاناضول جبال طوروس ، وتحده من الشرق وتفصله عن هضبة ايران جبال زاغروس المعروفة ايضاً بجبال كردستان ، ولتلك الجبال فضل كبير على الهلال الخصيب ، ولها في تاريخه اثر لا يضارعه اثر اي بلد مجاور آخر . فقد تعاونت مع الصحراء الواقعة الى جنوبيه لتعطيه شكلا هلاليا برزخيا جعل منه جسرا دوليا بين الشرق والغرب . ان الطريق الرئيسي الذي ظل يربط البحر المتوسط بالخليج العربي الافا من السنين كان يسير على محاذاة سكة حديد بغداد اليوم او ابعد منها شمالاً بقليل ماراً بحران وكركميش ( جرابلس ) واورفه ورأس العين ونصيبين وماردين وغيرها . ولم يكن اجتياز الصحراء بين طرفي الهلال ، أي بين الشام والعراق باتجاه مستقيم ميسورا كما هو اليوم ، بل كانت القوافل التي تحاوله معرضة اما للسلب او التيه او لموت جمالها متى نفد الماء والكلأ .

والهلال الخصيب ليس مدينا للجبال الشمالية والشرقية بشكله فحسب ، بل هو مدين اليها بمياه النهر التي تجري منها ومن شعابها كدجلة والفرات وروافدهما وتسبغ على القسم الأكبر من الهلال نعمة الخصب .

وكأن شعوب تلك الجبال والهضاب لم تشأ ان تبدي هذه الخدمة مجانا فكانت تهجر اراضيها الجبلية الوعرة من حين إلى آخر وتغزو سهوب الهلال الخصبة محاولة احتلالها كما فعل العيلاميون والميتانيون والحثيون وغيرهم . ولم يخل تاريخنا المعاصر من محاولات كهذه تمثلت في احتلال تركيا لسنجق الاسكندرون السوري ، وفي النزاع بين ايران والعراق على شط العرب . ولا شك ان الاستيلاء على الطريق الدولي الأنف الذكر كان احد الحوافز لتلك المحاولات .

ونتج عن استيطان الاقوام الجبلية الهلال اما سلماً او حربا وتزاوجهم مع السكان الأصليين ان انتقلت الى هؤلاء بعض التكاوين الارمنوية الجسدية كالرأس المستدير والفكين البارزين والأنف المقوس . والجبال الشمالية والشرقية تعتبر اليوم بعد شبه جزيرة العرب الينبوع الاثني الثاني لسكان الهلال الخصيب .

وخلاصة القول ان تأثير صلات الجوار في تاريخ الهلال الخصيب كانت على نوعين رئيسيين : التأثير الاثني الذي جاء على الأغلب من شبه جزيرة العرب ومن الجبال والهضاب الشمالية والشرقية ، والتأثير الحضاري ، وهذا التأثير الأخير ذو فروع كثيرة وقد جاء على الأكثر من قصر في التطور النهري للحضارة ومن البحر المتوسط في الطور البحري الذي يليه .

ان الهلال الخصيب وحدة جغرافية وكان في عصور كثيرة وحدة سياسية ولغوية أيضا . وهو بمجمل العبارة يشكل بقوته الكامنة وحدة حياتية . ان المؤثرات التي عرضنا لها في هذا البحث لا تعدو كونها مؤثرات خارجية تتعرض لها كل بلاد بحكم الجوار . ولم يكن الهلال الخصيب انانيا يأخذ ولا يعطي ولكنه تبادل المؤثرات المختلفة مع جاراته وتفاعل معها سلما وحربا . ولم تقف مؤثرات الهلال الخصيب عند حد الجارات بل تجاوزتها الى سائر انحاء العالم . ويكفيه

فخرا انه اعطى العالم الابجدية وديانات التوحيد . لقد ثبت لدى الباحثين استناداً الى علم الاثار ان اجزاء كثيرة من العهد القديم قد اقتبسها العبرانيون عن البابليين ، ويوجد بين هؤلاء الباحثين من يعتقد بأن العبرانيين اخذوا الاعتقاد بوحدانية الله عن البابليين .

كذلك قامت على ثقافة الهلال الخصيب احدى دعائم الثقافة الايجابية وبالنتيجة الثقافة اليونانية . هذا في الطور النهري للحضارة اما في الطور البحري فقد كان للسوريين اليد الطولى في ترجمة علوم فلسفة اليونان الى لغتهم السريانية ومن ثمة الى العربية . فبلد لعب هذا الدور في نشوء الثقافة اليونانية وفي بعثها في الشرق والغرب يحق له ان يفاخر بمآثره في مضمار الحضارة .

تعليقات