( الارض ) . غير أنهما لم يقبلا في الوقت نفسه بالفلسفة المادية كما عرضها الفلاسفة الفرنسيون في القرن الثامن عشر وتبناها فوير باخ . فكانا يأخذان عليها تجاهلها للنشاط الانساني الملموس ( البراكسيس ) ويؤكدان على أهمية العمل كعنصر اساسي في فهم العالم وتغييره . فالحقيقة الانسانية هي بنظرهما حقيقة مادية وتاريخ البشرية ينشأ أساساً عن العلاقة الفعالة التي يقيمها الانسان مع الطبيعة : « الشرط الأول لكل تاريخ بشري ، كما يقول ماركس ، هو بطبيعة الحال وجود كائنات بشرية . لكن الشيء الذي يمكن استنتاجه لأول وهلة هو حالة التعقيد الجسدي لهؤلاء الافراد والعلاقات التي يقيمونها مع سائر عناصر الطبيعة » .
اذا ، العلاقات مع الطبيعة هي علاقات انتاج ووعي البشر لأنفسهم ينبثق عن هذه العلاقات كما يشير الى ذلك في نص آخر « يمكن لنا تمييز البشر عن الحيوانات بالعقل او بالدين او غير ذلك ، لكنهم هم انفسهم يبدأون بتمييز ذواتهم عن الحيوانات منذ اللحظة التي يبدأون فيها بانتاج وسائل عيشهم كنتيجة لتركيبهم الجسدي وليس قبل ذلك . فالانسان اثناء انتاجه لوسائل عيشه يقوم بشكل غير مباشر بانتاج حياته المادية » . وحتى يستطيع البشر « صنع التاريخ » ، فلا بد لهم من العيش اولا . ولتأمين العيش لا بد من تأمين المأكل والمسكن والملبس وغير ذلك . وهذه الحاجات لا تتأمن الا عبر استخدام ادوات تسمح بإنتاجها ومعرفة كيفية استخدام هذه الادوات . هذه العناصر مجتمعة : البشر ومعارفهم من جهة والادوات التي يستخدمونها لانتاج الحاجات المادية من جهة اخرى تمثل ما يطلق عليه ماركس « القوى المنتجة » . لكن البشر اثناء عملية انتاجهم لهذه الحاجات لا يدخلون في علاقات مع الطبيعة فقط ، بل يدخلون في علاقات بعضهم مع بعض . ففي صراعهم مع الطبيعة لا يمكن لهم العيش بشكل معزول الواحد منهم عن الآخر . بل هم مضطرون لأن ينتجوا حاجاتهم
بشكل جماعي ومشترك وان يقيموا فيما بينهم علاقات معينة قد تأخذ شكل التعاون والتعاضد او شكل الاستغلال والسيطرة وتتصل بكل اشكال التقسيم الاجتماعي للعمل ونظام الملكية واشكال التوزيع والتبادل . وهذا ما يسميه ماركس « علاقات الانتاج » التي تتأثر بدورها وتتغير بتغير القوى المنتجة .
وتشكل القوى المنتجة من جهة وعلاقات الانتاج من جهة أخرى وحدة متكاملة فيما بينها يطلق عليها « نمط الانتاج » . والتاريخ بالنتيجة ليس سوى هذه العلاقة من التفاعل بين الاثنين . ويقول ستالين في هذا الصدد « يجب البحث عن المفتاح الذي يسمح باكتشاف قوانين تطور المجتمع لا في دماغ البشر ولا في آرائهم وأفكارهم بل في نمط الانتاج المزاول في المجتمع نفسه في كل مرحلة من مراحل تطوره . . . . .
إذاً ، فإن نمط الانتاج لا يحدد شكل المجتمع وآفاق تطوره فحسب بل يحدد اشكال الوعي الاجتماعي التي ترافقه . ففي مقدمة كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي ، يميز ماركس بشكل واضح بين البنية التحتية ( البنية الاقتصادية ) وبين البنية الفوقية القانونية والسياسية وتأثير الأولى على الثانية اذ يقول « يقيم البشر فيما بينهم اثناء عملية الانتاج الاجتماعي لوجودهم علاقات محددة وضرورية ومستقلة عن ارادتهم ، علاقات انتاج تعكس مرحلة معينة من تطور قواهم المادية المنتجة . إن مجموع علاقات الانتاج هذه هي التي تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والقاعدة التي تقوم عليها البنية الفوقية القانونية والسياسية التي تعكس بدورها اشكالا محددة من الوعي الاجتماعي » .
ويقول في مكان آخر « ان نمط انتاج الحياة المادية هو الذي يحدد سياق الوجود الاجتماعي والسياسي والروحي بمجمله . فليس الوعي هو الذي يحدد وجود البشر ، بل على العكس ان وجودهم
بالتأكيد، إليك النص الموجود في الصورة:
الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ، . انطلاقا من هذه الرؤية للعناصر الاساسية للحياة الاجتماعية يحدد ماركس رؤيته لعملية التغير الاجتماعي واسباب قيام الثورات في التاريخ . فيعلن في مقدمة « البيان الشيوعي ، الصادر في عام ١٨٤٨ ان تاريخ كل مجتمع لم يكن في يوم من الايام سوى تاريخ صراع الطبقات » . لكن كيف تولد الطبقات في المجتمع ؟ وما هي الاسباب الكامنة وراء الصراع الطبقي ؟
يعزو ماركس ولادة الطبقات للملكية الخاصة لوسائل الانتاج وما ترتبه من تقسيم للعمل الاجتماعي ( فكري ويدوي ) . فامتلاك هذه الوسائل يسمح لأصحابها بممارسة وظيفة القيادة والادارة وابعاد القوى المنتجة عنها مما يخلق في المجتمع انقساماً بين فئتين او طبقتين . طبقة تملك وتوجه وطبقة اخرى لا تملك شيئا وتوجه . هذا الوضع يساهم في خلق حالة من الصراع بين الفئتين . ويشرح ماركس اسباب وسياق هذا الصراع كما يلي :
« في مرحلة معينة من تطورها ، تدخل القوى المادية المنتجة في علاقة تناقض مع علاقات الانتاج القائمة اي مع تعبيراتها القانونية المتمثلة بعلاقات الملكية . . . وتصبح هذه العلاقات عقبة في طريق نموها وتطورها . عندها يصل عصر الثورة الاجتماعية . وبتغيير القاعدة الاقتصادية تنقلب البنية الفوقية رأسا على عقب . . . » .
اذاً ، فالتغير الاجتماعي ينتج عن مستوى تطور القوى المنتجة ولا يعود لافكار ونظريات وتأملات في الهواء . ويقول ماركس في هذا الاتجاه « فكما اننا لا نحكم على فرد من خلال افكاره التي يكونها عن نفسه كذلك لا يمكن لنا الحكم على التغيرات في عصر ما من خلال الوعي . بل على العكس يجب تفسير هذا الوعي انطلاقا من تناقضات الحياة المادية وانطلاقا من الصراع الحاصل بين القوى المنتجة
وعلاقات الانتاج » . فعندما تتطور القوى المنتجة وتدخل في علاقة تناقض مع علاقات الانتاج تحاول هذه الاخيرة كبحها وإبقاءها كما هي لاخفاء بنية اجتماعية تؤمن امتيازات لطبقة ما . ولهذا السبب فإن الانتقال من نمط انتاج الى آخر يتطلب كسر الوحدة السابقة واستبدالها بوحدة او بنمط انتاج آخر . وعلى قاعدة هذا التطور للقوى المنتجة يبين ماركس التعاقب التاريخي لعدد من انماط الانتاج المحددة كالمشاعية البدائية والرق والاقطاع والرأسمالية التي لا بد لها وان تخلي المكان للبروليتاريا في المستقبل .
وتنغي الاشارة الى أن دور الوعي وتأثيره على البنية التحتية وعلى عملية التغيير الاجتماعي قد أثار إشكالات عدة بعد موت ماركس . فتركيز هذا الاخير على ربط الوعي بمستوى تطور القوى المنتجة وإعطائه دوراً ثانوياً في عملية التغيير دفع البعض الى اتهام الماركسية بالنزعة الاقتصادوية والميكانيكية في تفسير حركة التاريخ . وهذا ما حدا بانغلز في عام ۱۸۹۰ الى الرد على مجموعة « شباب » الديموقراطية الاشتراكية الالمانية التي حاولت تسخيف الماركسية بالقول « إن العامل المحدد في المفهوم المادي للتاريخ هو في نهاية المطاف انتاج واعادة انتاج الحياة المادية . لا أنا ولا ماركس أضاف شيئا أكثر من هذا . واذا كان احدهم يريد ان يحور موقفنا بالقول ان العامل الاقتصادي هو العامل المحدد والوحيد فإنه يحول هذه الجملة الى فراغ وتجريد وعبث » .
وعلى الرغم من ذلك لم تسلم المادية التاريخية من سهام النقد . حيث يؤخذ عليها نزعتها الحتمية وتجاهلها لطبيعة الانسان وحريته كما يؤخذ عليها مثاليتها ( رغم تبنيها للمادية ) في تحديد هدف محدد لحركة التاريخ ( ازالة الطبقات من المجتمعات ) . الا أن هذه الانتقادات لم تسلب المادية التاريخية قوتها النظرية في تحليل المجتمعات خصوصا في مرحلة الرأسمالية ولا تزال حتى الآن تمارس تأثيرها على
الباحثين والفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسيين .
كما أنها لا تزال المرجع النظري الوحيد للاحزاب
الشيوعية والانظمة « الاشتراكية » في العالم .