كيف كانت المؤسسات السياسية في الهند القديمة

 








الهند القديمة :

ساد النظام الملكي في اغلب المناطق الهندية ، وهي لم تكن موحدة تحت ظل ادارة مركزية . وغالباً ما كانت تتشكل ممالك كبرى تتبع لها دويلات ملكية ، لفترة معينة ، ثم يعاد تشكيل الحدود والعلاقات السياسية بين المناطق ، إما بفعل غزو خارجي او بسبب اضطرابات داخلية .

ويرتكز هذا النظام ، كما في كل الانظمة الملكية ، على شخصية الملك التي تكتسب قوة الهية عند احتفال التنصيب على العرش وتتماهي مع « اندرا » ابن الاله الاكبر « براجاباتي ، واحياناً مع هذا الاخير . هذه القوة السحرية - الدينية تبقى مع الملك طوال فترة حكمه وتتدعم بواسطة عدة طقوس ، وهي تستند على الافكار البراهمانية التي ترى في الملكية وظيفة الهية . ومن المحتمل ألا يكون هذا المفهوم منتشراً في كل انحاء الهند وبالاخص في الشرق حيث عاش بوذا ( ٥٥٨ - ٤٧٨ ق . م ) وكلتا الفلسفتين ( البراهمانية والبوذية ) كانت تنفي مبدأ الوهية الملك . غير ان هذا المبدأ هو الذي ساد في الواقع .

يتمتع الملك بسلطات واسعه وغير محدودة نظريا ، ولكنها عملياً تصطدم بعدة حدود . اهمها ، ضرورة احترام التعاليم والمبادىء الدينية والاجتماعية السائدة . وقد يعرض خرق هذه المبادىء الملك ليس فقط لتعنيف البراهمانيين ، بل وحتى للموت ، اذان مبدأ قتل الملك المستبد والكافر او الذي لا يقوم بواجباته ، كان مبرراً ومحللاً اخلاقيا ( انظر اغتيال المستبد ) . ضمن هذه الحدود ، كان على الملك تأمين حماية الشعب ضد أي خطر خارجي ، والحفاظ على النظام الاجتماعي القائم . والعمل على ان يعيش كل فرد بحسب العادات المتناسبة وعمره وفئته الاجتماعية . كما تشمل مهمات الملك ، القيام بتطوير شبكة الري ، ومنع الجوع ، والاشراف على الحياة الاقتصادية . ورعاية الفنون والآداب والثقافة ، وما يميز النظام الهندي انه لا يعطي للملك سلطات تشريعية ، فالاوامر والمراسيم الملكية تتناول قضايا متفرقة ومؤقتة وهي لا تتخذ صفة قوانين عامة ، حيث ان الدين هو مصدر هذه القوانين .

من المفترض ان تنتمي العائلة الملكية الى فئة المحاربين ، لكن بعض العائلات المالكة كانت من خارج هذه الفئة ، وغالباً ما كان يجري اندماجها فيها بعد عدة اجيال . كذلك كان منصب الملك مخصصاً للرجال ، غير أن بعض النساء استطعن الوصول للعرش في ممالك اوريسا خلال القرون الوسطى ، عقب وفاة ابيهن الملك . وبعضهن مارسن الوصاية على العرش حتى بلوغ اولادهن السن المطلوبة للحكم . اما الخلافة فكانت تنتقل عموماً للابن البكر ، لكن التاريخ سجل بعض الاستثناءات التي تعود لعدم صلاحية البكر ) بسبب المرض أو العجز او سوء السلوك ) . وفي بعض الاحيان ، كان الملوك يسمون خليفتهم دون النظر الى حق البكر، اذا رأوا ان هذا الأخير ليس جديرا بالعرش . وثمة اشكال اخرى في هذا المجال كما في بعض الممالك الهندية حيث كان الاخوة يتعاقبون على العرش بحسب السن ، حتى وفاة اخرهم ، وعندها ينتقل العرش

لابن البكر للاخ الاكبر . وقد ساد في اغلب الممالك الهندية تقليد ان يقوم كبار الوجهاء تسلم مقاليد الحكم ، في حال وفاة الملك دون ان يترك وريثاً له ، وذلك ريثما يجتمع النبلاء والوزراء والزعماء الدينيون واغنياء التجار ليختاروا عاهلاً جديداً .

يحيط بالملك مجلس خاص يضم مستشارين وخبراء يعينهم الملك نفسه ، من حيث المبدأ ، ويتراوح عددهم بين ٨ و ١٠ أشخاص . ومع ان لهذا المجلس طابعا استشاريا فقط ، فإنه يتمتع بثقل سياسي كبير . وهو يعالج بعض القضايا في حال غياب الملك ويتخذ بعض القرارات الثانوية دون الرجوع اليه . وبالاضافة لهذا المجلس ، ثمة هيئة من الوزراء والمسؤولين الكبار ، تقوم باعباء الحكم ويديرون تقريباً كل النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمالية . ( الثروة ، المناجم ، التجارة ، الجمارك ، الجيش ، الالعاب ، القضاء . . . الخ ) هذه الهيئة الحكومة لم تكن تحدد وتشرف على النشاط الاقتصادي للبلاد وحسب، بل وكانت تحتل فيه مكاناً هاماً . فالمناجم وصيد اللؤلؤ ، ومناجم الملح وغيرها كانت ملكاً للدولة وهي تستخدم فيها العبيد والمساجين المحكومين ، او تحيل استثمارها لمؤسسات خاصة لقاء حصة من الارباح . كذلك ، كانت مصانع الاسلحة والمراكب مؤممة . وهذا يدل على أية درجة كانت الدولة كلية الحضور .

على المستوى المحلي، تنقسم المملكة الى محافظات ، يعين الملك على رأس كل منها محافظاً ينتمي عادة للسلالة المالكة . الا ان هذا المنصب اصبح يتناقل وراثياً ، خاصة بعد انقضاء حكم سلالتي مورية في القرن الرابع ق. م وغوبتا في القرن الرابع م . وتحول الحاكم الى امير يتبع السلطة المركزية . وعلى كل حال كان الحاكم العنصر الرئيسي في الادارة المحلية ، وتشمل مهماته : جباية الضرائب وفرض القانون بمساعدة الشرطة ، وصيانة الطرق والعمل على الحد من الكوارث ( الجوع ، والفيضانات والأوبئة ونجدة الضحايا .. الخ) . وهو

يقوم بتعيين مدراء المناطق التابعة له ، الذين يعملون على تنفيذ المهام الموكلة اليهم من الاعلى ويتخذون القرارات الملائمة بعد استشارة مجلس مؤلف من الوجهاء وممثلي المصالح المختلفة . ومثل هذا المجلس كان موجوداً على نطاق المدن . وتجدر الاشارة الى ان من هذه المدن ما كان يملك بعض الاستقلال الذاتي الذي قد يصل الى حد صك العملة .

اما الوحدة الادارية الاساسية ، فهي القرية ، حيث ان تصنيف المناطق كان يتم بحسب عدد القرى التي تضمها . ويتولى زعامة القرية عادة ، أحد اغنياء الفلاحين ، الذي ينقل سلطاته لاولاده . ومركزه هذا يعفيه من دفع الضرائب ، كما يمنحه الحق في تسلم التعويضات العينية . ويقوم عليه ، بشكل خاص ، تأمين حماية القرية . وهو محاط احياناً ، إن كان مسؤولا عن مركز زراعي كبير ، بعدة مساعدين ( محاسب ، حارس ، جابي .. الخ ) . وثمة ، في هذا المستوى ، مجلس يتألف ، بحسب التقاليد المحلية ، إما من زعماء العائلات أو من افراد يجري اختيارهم بالقرعة ، وهو يتولى الحكم في الخلافات الناجمة ، وحل القضايا التي لا تدخل في نطاق اهتمامات الحكومة ، وتحديد الضريبة لكل اسرة وجبيها ، ومفاوضة ممثل الحكومة على المبلغ الذي يتوجب ان تقدمه القرية .

إن أكثر ما يلفت النظر في تركيب وعمل الدولة في الهند القديمة ، هو ظاهرة الاعتماد الهائل على التجسس والاجهزة السرية . فالدولة والمجتمع ، وعلى كل المستويات ، كانا غاصين بالجواسيس والوشاة والعناصر السرية الذين يرتبطون بمراكز خاصة يسلمون لها المعلومات ويتلقون منها الأوامر . لكن هذه المراكز القيادية لم تكن مسؤولة عن كل نشاط هؤلاء العناصر . إذ أن بعضها كان مرتبطاً مباشرة بالملك أو بأحد وزرائه ومكلفا بالتجسس على الوزراء انفسهم ! . وما يميز هذه الاجهزة ، انها كانت تجند عناصرها من كل الاوساط دون استثناء ( من البراهمانيين ، والتجار، والحلاقين ، والفلكيين ،

واخدام ، والعاهرات ، والفلاحين . . ) . إلا أن هناك صنفين من العملاء لهما اهمية خاصة . الاول يدعى « ستاري ، ويجري اختيار عناصره من بين الأطفال اليتامى الذين يتدربون منذ سن مبكرة على التجسس في زي نساك ورواة مغامرات ، إذ ان الناس يثقون جدا بهاتين الشخصيتين ، مما يسهل عملية جمع المعلومات وبث الاشاعات . اما الصنف الآخر ، فهو يضم المغامرين المحترفين الذين ينفذون مهام سرية وخطيرة ) اغتيال اعداء الملك ، التحريض على الثورة في اراضي الاعداء . . الخ ) .


تعليقات