لماذا صار الاستهلاك غاية بعد أن كان وسيلة

 










مجتمع الاستهلاك

Consumptive Society

Société de consommation

يطلق هذا التعبير على المجتمعات التي يكون الفرد فيها مدفوعاً ، من قبل وسائط ضغط وتأثير هائلة ، لاستهلاك منتجات ومواد تتجاوز حاجاته ، وهو يدفع ثمن تلبية هذه الحاجات الزائدة زيادة في العمل كان بامكانه ان يوفرها او يوظفها لأهداف اخرى .

واستهلاك المنتجات ، بحد ذاته ، ليس هو السمة المميزة لما يسمى بالمجتمع الاستهلاكي ، فالعمل الانساني ، منذ القدم ، يهدف بالضبط لانتاج خيرات تسد الحاجات الانسانية المتنوعة والمتغيرة مع الزمن ، ثم استهلاكها . غير أن ما يميز المجتمع الاستهلاكي ، هو تحول الاستهلاك الى غاية بحد ذاته ؛ فشراء المنتجات لم يعد سلوكا تمليه ضرورة الحصول على سلع تلبي حاجة اولية او ثانوية وحسب ، بل اصبح ايضا ارضاء لدافع لاعقلاني غامض غايته الاستهلاك . وبالمقارنة مع العادات الاستهلاكية السائدة في القرون الماضية ، حتى في المجتمعات الأوروبية الصناعية ، حيث كان الفرد يبحث عن اقتناء المنتجات التي تستمر لأطول فترة ممكنة ، وكانت المعايير الاساسية لجودة المادة تتلخص بالاتقان والمقاومة ، فإن الوقت الحاضر يتميز بانقلاب هذه العادات جذريا ، فالبحث عن مثل هذه الصفات المقاومة لم يعد ضروريا ، إذ ان الصناعة تغرق السوق بمنتجات متجددة دوما ومتغيرة ، على الأقل من حيث الشكل، وترفقها بحملة لتغيير الذوق الشعبي بحيث تدفع الفرد لشراء منتجات سبق ان امتلك مثلها قبل فترة قصيرة ، وذلك لكي يبقى منسجما مع « عصره » . أي ان مفهوم الانسان للمنتجات اختلف واصبح احساسه بالطمأنينة مرتبطا بقدرته الدائمة على اتلاف المنتجات وشراء غيرها ،


بعد ان كان ، في الماضي ، مرتبطا بامتلاك سلع دائمة :

لقد ظهر هذا النوع من المجتمع ، بأوضح صوره ، في الدول الصناعية المتطورة ( اوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ) بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث حققت الثورة العلمية - التكنولوجية قفزة هائلة ، وتطورت ( عقلنة ، الانتاج بشكل يسمح للصناعة بانتاج كميات كبيرة من السلع تتجاوز بكثير كمية الطلب . وقد فرض هذا الوضع اجراء تغيير في السوق لاستهلاك هذا الفائض ، دون الخروج عن منطق النظام الرأسمالي ، أي دون اجراء تغيير جوهري في نظام الانتاج نفسه ، وذلك بعملية مضاعفة : زيادة الأجور التي كانت مطلباً نضاليا للنقابات ثم استعادتها ، عن طريق امتصاصها في سوق استهلاكية موسعة ، ترتكز من جهة على عرض بضائع ( من كل الأنواع ) ، قليلة الجودة والثمن بحيث تصبح بمتناول القطاع الأكبر من السكان ، ومن جهة اخرى التلاعب بالذوق وتغييره عن طريق الدعاية بوتيرة تتوافق مع وتيرة انتاج مواد جديدة وتسويقها . كما ان توسيع السوق اتخذ شكل التنويع الهائل في المنتجات ، وبالاخص تلك التي لا يمكن ان يتجاوز استهلاكها حدا كميا معينا ( الأطعمة مثلا ) وانتاج بضائع دون فائدة الا لارضاء الرغبات الشاذة ، بل وتشويه الرغبات الاساسية لتشجيع اقتناء الحيوانات المنزلية عن طريق انتاج مواد غذائية ، وأدوية ومواد تنظيف الخ مخصصة لها .

هذه القدرة على توظيف الظواهر الاجتماعية والنفسية ، هي احدى ميزات المجتمع الاستهلاكي الاساسية ، ففي سنوات الستينات ، بعد ظهور حركات الشباب المعارضة لقيم البذخ والاستهلاك ، نشأت صناعة كاملة لترويج الثياب نفسها التي كانت رمزا لرفض المجتمع الاستهلاكي ببساطتها ، واصبح اقتناءها مجرد ( صرعة ) .

وبالطريقة نفسها ، استثمرت افكار التحرر الجنسي للثورة الطلابية ١٩٦٨ في فرنسا ، لانشاء شبكة مذهلة لطبع وترويج المجلات والافلام الجنسية الرخيصة . وسواء كان تحقيق الهدف الرئيسي لاستمرار عمل نظام الاستهلاك هذا ، ألا وهو خلق حاجات جديدة دوما ، يتم عن طريق تحريف ميول ظاهرة واحتجاجية أو التلاعب على الضعف البشري ، فإن الاداة الرئيسية في هذه العملية هي الدعاية بكافة وسائلها ، والتي تشكل هي نفسها واحدة من اهم مواضيع الاستهلاك الأسرع تلفا . لقد امكن الجهاز الدعاية الضخم ان يعمل ويتطور ، بفضل آلية متجددة يذهب ضحيتها المستهلك ، فهي تقوم بالتأثير في سلوكه الشرائي لاستهلاك منتجات يخصص قسم كبير من اسعارها للدعاية نفسها ، وهكذا يمول المستهلك الجهاز الدعائي الذي يحثه على الاستهلاك وتتكرر الحلقة . اما الاساليب التي تتبعها فتعتمد على آلية معقدة من التشريط ( التكييف ) السلوكي بهدف خلق صور مثالية للوجود ( طريقة اللباس ، نوعية الأكل ، نمط السيارة ، الانسان العصري .. الخ ) على الفرد ان ينسجم معها والا فإنه يصبح عرضة للعزلة والقهر من محيطه . كما تقوم بتحويل السلعة الى شبه اسطورة وتعطيها خواص اكثر مما تحمله بحقيقتها الخاصة ، عن طريق ربطها برغبات غير مشبعة - جنسية غالبا - تنتمي لمجالات لا علاقة للسلعة فيها، أو حتى إنها تناقضها. مثل تقديم صور الرياضيين تعبر عن الصحة والنشاط والى جانبهم نساء في اوضاع مثيرة ، لترويج مواد مضرة بالصحة ( تبغ ، مشروبات روحية ... ) . وبالطريقة نفسها ترفع موضات الشباب للحالة المثالية ، وتحث الأكبر سنا على اتباعها ليشعروا بفتوتهم . واختيار ( صرعات ، الشباب المستجدة دوما يناسب تماما هدف خلق الحاجات بشكل مستمر .

إلا أن شدة التنافس وكثافة الكميات الانتاجية ، اصبح يفرض اكثر فأكثر نوعا من التعايش بين مجموعة كبيرة من الصور المثالية ، مما خلق وضعا من القلق وعدم الاشباع الدائمين لدى المستهلك بسبب عدم قدرته على الاختيار او بالاحرى ، الانسجام مع كل هذه الصور ، لاسيما وان صراع الدعايات يحيده تماما ويجعله عاجزا عن تكوين رأي خاص به ، ذلك انه لا يميز - كونه جزءاً من النظام ، بل وجزءاً من آلية الدعاية نفسها - حدود رأيه وحاجات شخصيته ووجوده الانساني .

لم تعد ظاهرة الاستهلاك هذه ، محصورة في البلدان الصناعية المتطورة بل امتدت لتشمل غالبية بلدان العالم الثالث بنسب متفاوتة . غير انها اكتست طابعا ( مزيفاً ، كون مستوى تطور هذه المجتمعات الصناعي والاقتصادي لم يصل بعد الى حد انتاج فائض من السلع بشكل كاف ، بل ولا حتى لعتبة سد حاجاتها الأولية . وضمن حالة التبادل التجاري السائد حاليا ، لا تعدو هذه المجتمعات ، بهذا الشكل او ذاك ، ان تكون مصدرا للمواد الأولية وسوقا للبضائع الكمالية والعسكرية القادمة من البلدان الصناعية . وتتم عبر وسائل الدعاية المختلفة ( سينما ، مجلات ، دعاية بحصر المعنى . . . ) تغذية عقدة النقص تجاه المجتمعات الغربية وتشجيع السلوك المقلد الاستهلاكي لحل هذه العقدة . ظاهرياً فقط ، لأن التقليد يؤدي غالبا لظهور ازمة ثقافية ، ويعقد من المهام الملحة التي يجابهها العالم الثالث ، إذ يضيف عليها تحقيق طلبات وحاجات ( مزيفة ) ( الهامبرغر والكوكا كولا . . ) .

هذا النظام اللاعقلاني من الانتاج / استهلاك اثار العديد من الانتقادات ، من تيارات مختلفة ، ربما كان اهمها ما تضمنه تقرير نادي روما - تجمع مفكرين واقتصاديين تأسس عام ١٩٦٨ - وما صاغه الاشتراكي الهولندي المعروف «مانز هولت» . وتتلخص هذه الانتقادات بأن النمو الجامح الذي ليس له اي ضابط عقلاني يضر بنوعية الحياة . وإن

المنتجات الاستهلاكية المعروضة للانسان ، اصبحت ، اكثر فأكثر لا تشبع وغير مرضية. وتنال بالاذى من مفهوم الحياة المستقرة التي تتيح التمتع بشروط الوجود الجوهرية . كما يرى انصار الطبيعة والبيئة ، من جهتهم ، أن التقدم الصناعي ، بالشكل الرائج حاليا ، يشوه علاقة الانسان بالطبيعة ويضر بها وبالتالي يضر بالانسان نفسه ، حيث انه مرتبط بالوسط الطبيعي المحيط


تعليقات