متى ساد المذهب الشافعي في مصر والشام على بقية المذاهب

 








المذهب الشافعي

المذهب الشافعي نسبة إلى الإمام أبي عبد الله محمد ابن إدريس القرشي الهاشمي الشافعي المولود بغزة سنة ١٥٠ هـ / ٧٦٧م والمتوفى في مصر سنة ٢٠٤ هـ / ۸۱۹ م . ومذهبه ثالث المذاهب الأربعة في القدم .

وقد أخذ الشافعي عن الإمام مالك ثم رحل إلى العراق فأخذ عن أصحاب أبي حنيفة ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق ، واختص بمذهب خالف فيه مالكاً في كثير من الأمور .

والمعروف أن الشافعي قدم إلى بيت المقدس وصلى فيه وقال : « سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنة رسوله » . ونهج منهج التوفيق ، فوقف موقفاً وسطاً بين البحث الحر في الفقه والتقليد . ويقول أصحاب الطبقات : إن ظهوره كان أولاً بمصر ، ثم ظهر بالعراق وغلب على بغداد وبلاد خراسان والشام واليمن وفارس والحجاز والهند .

انتشر مذهب الإمام الشافعي في فلسطين فكانت من معاقل الشافعية في القرن الثالث الهجري . وفي القرن الذي تلاه أخذ الشافعية يتنازعون مكانة الأوزاعية في الشام وفلسطين واستأثروا بالقضاء فيهما .

ولما قامت الدولة الفاطمية 1 (انظر : الفاطميون) أصبح العمل لدى أكثر الناس فيها على المذهب  

الفاطمي ، ولما قضى صلاح الدين على دولة الفاطميين رجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل الشام والعراق . وأخذ الأيوبيون في إنعاش مذاهب السنة ببناء المدارس الفقهائها وخصوا المذهب الشافعي بالقضاء لكونه مذهب الدولة الرسمي . وكان بنو أيوب كلهم شافعية إلا المعظم عيسى بن احمد ابن أيوب فإنه كان حنفياً وتبعه أولاده في ذلك . ثم لما جاءت دولة المماليك البحرية كان سلاطينها شافعية فاستمر العمل في القضاء على ذلك حتى أحدث الملك الظاهر بيبرس القضاة الأربعة وميز الشافعي بتولية النواب في سائر البلاد وأفرده بالنظر في مال الأيتام والأوقاف . وكانت له المرتبة الأولى يليه المالكي فالحنفي فالحنبلي . واستمر الأمر على ذلك في دولة المماليك الشراكسة حتى استولى العثمانيون على البلاد فأبطلوا القضاة الأربعة وحصروا القضاء في الحنفي (انظر: المذهب الحنفي). ولكن ذلك لم يؤثر في انتشار المذهب الشافعي والمالكي في مصر وفلسطين فبقيا غالبين . وكان الشافعي أغلب على الوجه البحري وبقيت مشيخة الأزهر محصورة في علماء الشافعية حتى عام ۱۲۸٧ هـ / ۱۸۷۰ م .  

وقد استشهد عدد من فقهاء الشافعية أثناء سقوط القدس بيد الصليبيين سنة ٤٩٢ هـ / ١٠٩٨ م . ومن هؤلاء الفقهاء الشيخ أبو القاسم مكي بن عبد السلام بن الحسين بن القاسم الأنصاري الرملي الشافعي الحافظ، وكان مولده سنة ٤٣٢ هـ / ۱۰۳۸ م . وكان قد شرع في تأريخ بيت المقدس وفضائله . ولما أخذ الصليبيون بيت المقدس أخذوه أسيراً فقتلوه .

ومنهم أبو القاسم عبد الجبار بن أحمد بن يوسف الرازي الشافعي الذي استقر ببيت المقدس إلى أن استشهد .

وحينما استرد صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس سنة ٥٨٣ هـ / ۱۱۸۷ م عادت للمذهب الشافعي مكانته فغلب على بقية المذاهب في فلسطين . وقد كان صلاح الدين شافعياً فأقام المذهب الشافعي في فلسطين وعين إماماً شافعياً يصلي بالجامع الكبير القبلي المتعارف عليه عند الناس بالمسجد الأقصى ، وولى الشافعية القضاء .  

لم يقتصر دور الإمام في المسجد الأقصى على الإمامة في الصلاة بل اشتغل بالعلم والتدريس . وتولى بعض أئمة المسجد الأقصى المشيخة أو التدريس في إحدى المدارس الشافعية . وتشعب تدريسهم فلم يقتصر على الفقه الشافعي ، ودرسوا موضوعات مختلفة من قراءات وحديث وفقه ولغة ونحو وبلاغة وتصوف .  

وكان الفقه الشافعي مادة رسمية تدرس في المسجد الأقصى . وكان العلماء يركزون على تدريس عدد من كتب المذهب الشافعي بالإضافة الى الإفتاء والتدريس .  

ومن أشهر المدارس التي أنشئت في القرنين السادس والسابع الهجريين / الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين المدرسة الصلاحية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي بالقرب من سور القدس من جهة الشمال بباب الأسباط ووقفها على فقهاء الشافعية سنة ٥٨٨ هـ / ۱۱۹۲ م . وكانت وظيفة مشيختها من الوظائف السنية بمملكة الإسلام .  

كانت هذه المدرسة مصدر إشعاع علمي وثقافي ، وكان الفقهاء من داخل فلسطين وخارجها يجتمعون فيها للدرس والمناظرة . فقد كان يفد إلى القدس عدد من العلماء من خراسان يقومون بمحاورات مع شيوخ الشافعية .  

ظلت المدرسة الصلاحية مركز إشعاع علمي وثقافي طوال قرون . فقد استمر فيها التدريس وعقد مجالس العلم والإفتاء .

ومن المدارس المشهورة التي أسست للفقهاء الشافعيين المدرسة الناصرية على برج باب الرحمة في القدس . وتعرف بالمدرسة الغزالية نسبة الى أبي حامد الغزالي الذي أقام فيها وقضى أوقاته في العلم والعبادة ، وصنف وشارك في الحركة الفقهية وأخذ عنه طالبو العلم . ويقال إنه صنف فيها إحياء علوم

الدين ، كما صنف لأهل القدس مصنفاً سماه ه الرسالة القدسية في قواعد العقائد .

ومن المدارس الشافعية أيضاً المدرسة البدرية نسبة الى واقفها بدر الدين محمد بن أبي القاسم الهكاري أحد أمراء الملك المعظم ، وقد وقفها على فقهاء الشافعية . والمدرسة الميمونية عند باب الساهرة ، وقد وقفها الأمير فارس الدين أبي سعيد ميمون خازندار السلطان صلاح الدين على فقهاء الشافعية أيضاً .

قامت هذه المدارس بدور هام في خدمة المذهب الشافعي فتنوع العمل فيها بين تدريس الفقه الشافعي للطلاب والتركيز على الكتب المهمة في المذهب وشرحها والتعليق عليها .  

شارك العلماء الشافعية في حركة التأليف فصنفوا مصنفات كثيرة في الفقه والحديث مثل مشكل الوسيط ، وكتاب الفتاوى ، وأدب المفتي والمستفتي ، وطبقات الفقهاء الشافعية الذي اختصره النووي واستدرك عليه . وهذه المصنفات جميعاً لشيخ الإسلام تقي الدين أبي عمر بن أبي النصر النصري .

ومن العلماء الشافعية من كان يشجع على الاشتغال بالعلم منفقاً على الطلبة من ماله . ومن هؤلاء الشيخ برهان الدين أبو إسحق إبراهيم بن أحمد العجلوني المقدسي الشافعي . فقد ذكر انه انتمى إليه فقراء الناس لإقرائهم فأقرأهم . وكان ينفق على من كانوا ينتمون إليه فافتقر بعد أن بذل كل ماله في سبيل العلم والتعليم .  

ومن العلماء الشافعية أيضاً من اشتغل بالعلم تبرعاً . ومن ذلك ما ذكر عن شيخ الإسلام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حسين بن حسن الرملي المقدسي الشافعي المعروف بابن رسلان ، وهو من أشهر العلماء في بيت المقدس . فقد آثر الاشتغال تبرعاً ورفض ان يلي مشيخة مدرسة الأمير حسام الدين ناظر القدس والخليل عندما عرضها عليه وقرر له عشرة دراهم فضية يومياً .


ظلت وظيفة التدريس في المدرسة الصلاحية لأتباع المذهب الشافعي وحدهم ، وقد عمد بعض شيوخ الحنفية الى التدريس فيها فساروا على مذهب الشافعي . ومن هؤلاء قاضي القضاة شمس الدين الهراوي الذي دخل القدس وكان حنفياً فصار شافعياً . وكان يقرأ المذهبين مذهب أبي حنيفة ومذهب الشافعي .

وكان الملك المعظم عيسى (وكان حنفياً) بعد قدومه الى بيت المقدس سنة ٦٢٣ هـ / ١٢٢٦ م يستدعي الفقهاء الشافعية من المدرسة الصلاحية ويباحثهم في مسائل لغوية وفقهية متنوعة ويظهر استحسانه لرأيهم .  

وعلى ذلك تكون القرون الأخيرة التي سبقت ظهور العثمانيين هي العصر الذهبي للمذهب الشافعي . فقد كان له فيها السلطان المطلق على بلاد الإسلام الوسطى .

وعلى كل حال لا يزال للمذهب الشافعي المكانة الأولى في بعض بلاد الشام . وقد ذكر المقدسي في أحسن التقاسيم ، أن الفقهاء بإقليم الشام في زمنه ، أي في القرن الرابع الهجري ، كانوا شافعية . قال : « ولا ترى به مالكياً ولا داودياً » . والملاحظ ان البلاد التي دخلها المذهب الشافعي في الماضي لا تزال عليه حتى الآن .


تعليقات