ماذا يعني محافظة ومحافظين؟ ولماذا صار المصطلح ضبابياً ومختلف فيه

 









المحافظة

Conservatisme

ماذا تعني المحافظة ؟ فالتعبير من جهة غامض وتعريفه مصدر خلاف . ما هي الدلالات الممكن أخذها ؟ السؤال المطروح ليس مجرد مشكلة المصطلح ، بل إنه يقحمنا في مشاكل أعمق . لنبدأ بالكلمة ، وقبل كل شيء تاريخها ضمن المجال الذي جاء منه هذا المصطلح السياسي .

ان تعبير المحافظة ، فهم في معناه السياسي حينما ظهر لأول مرة في فرنسا . اذ ولد في عصر الإصلاح ، ويدين بحروفه الأولى في النسب الى الجريدة المتطرفة التي تأسست عام ۱۸۱۸ من قبل شاتوبريان Chateaubriand المحافظ . . وفي انكلترا ظهر حزب المحافظين - وهي تسمية ظهرت لأول مرة في مقالة لـ « كروكر » (J.W. Croker) ؛ في تشرين الثاني - نوفمبر عام ۱۸۳۰ . والذي خلف حزب توري Tory ، وهو [ حزب سياسي كان مؤيداً للسلطة الملكية وهو اليوم حزب المحافظين ] . وفي سنة ١٨٣٠، دخل التعبير ضمن المصطلحات المستعملة في السياسة في بريطانيا ، وبعد عدة سنوات ، أصبح تعبيراً قائماً في جميع انحاء أوروبا الغربية .

منذ ذلك الحين ، فإن هذا المصطلح وكغيره من المصطلحات السياسية ، عاش وجوداً ، متحركاً وأحياناً ثائراً ، في المكانة السياسية ، التي دفعته في مجالات مختلفة حسب البلدان ، وحملته أيضاً الكثير من الإبهام والمفاهيم المتعددة .

في انكلترا اليوم ، المحافظة كلمة ذات أهمية كبيرة ومظهر محترم ؛ وهي منذ أكثر من قرن ونصف ، تعتبر التعبير الجوهري للحياة السياسية ، اذ انه يتعلق

بحزب لم يتوقف عن كونه ؛ إما الحزب في السلطة أو المنافس للحزب الذي في السلطة .

واستمر هذا النجاح ، في تصاعده :

فالمحافظة عند مدام تاتشر ليست هي نفسها عند بورك Burke أو ديزرائيلي Disraeli . فالكلمة نفسها اذن متعددة الدلالات .

في فرنسا لم يعرف هذا التعبير نفس المعنى والغنى . فالمحافظ ، جريدة شاتوبريان لم تعش الا فترة بسيطة، ومنذ ذلك الحين لم تستخدم الكلمة كعلم سياسي .

إلا أن الجمهورية الثالثة عندما ولدت أرادت لنفسها أن تكون ( محافظة ) . فالكلمة حملت مفهوماً محقراً بشكل عام [ فالمحافظة بالإجمال هي مرادفة الموقف رجعي أو للدفاع عن امتيازات موجودة ] ، وبشكل خاص خدمت كسلاح بلاغي في الحوار السياسي . ونتج عن ذلك أن الكلمة افتقدت للدقة ولم يكن لها أي محتوى عقائدي .

في الولايات المتحدة تختلف الأشياء ، فالتعبير استعمل بصورة عرضية في القرن التاسع عشر من قبل مجموعات وحركات سياسية مختلفة بدون أن يكون المعنى ثابتاً . وفي القرن الحالي وخصوصاً في الفترة المعاصرة ، كسب شهرة واتساعاً ولكنه انحسر ايضا كمفهوم فقد كان تطوره وبجزء منه رديفاً لكلمة تحرر . فالمصطلح من ناحية سياسية في امريكا كان تقريباً هو أصل المعنى الذي تدل عليه كلمة ليبرالية ، وهو قريب من المصطلح الاجتماعي الديمقراطي الأوروبي ؛ وبالنتيجة ، فإن الليبراليين ) بالمعنى الأوروبي للتعبير ) ينضوون جميعاً تحت راية المحافظين ) .

أما اليوم فأولئك الذين يحملون اسم « محافظين ) يشكلون فئة غير متجانسة ، إن لم تكن شاذة ، حيث يتعايش ؛ الإباحيون مع الذين يمثلون ( الأغلبية الأخلاقية ) .

والتعبير الأمريكي يمارس الخلط ، فهو ليس أكثر من اصطلاح لغوي .

أما المصطلح الأكاديمي فهو بلا شك أقل غموضاً من المصطلح السياسي ولكنه لا زال بعيداً عن ان يكون ثابتاً وأكيداً تماماً . ولقد وردت استعمالات شائعة مختلفة وغامضة ، كذلك هناك الصعوبات التي فرضها تاريخ الأفكار بشكل عام . ومن المتفق عليه أنه يمكن التمييز داخل التاريخ الغربي بين أي حركة أو تيار ثقافي أو سياسي ( محافظ ) .

ولكن من دراسة الى أخرى ، لا نجد للتكييف نفس المعنى ؛ فالحركة ليس لها باستمرار نفس الأصل وخاصة ليس نفس الممثلين . إن المؤرخين متفقون على قاعدة عامة هي أن ولادة المحافظة كان في النصوص التي نشرت لأول مرة بشكل معاد للثورة . ولكن M. Morton Averbach يعود الى الفكرة الكلاسيكية ويدخل بين المحافظين ، Cicéron و Thomas More و Saint Augustin الخ ...

ويعتبر Burke في الغالب الأب المؤسس للمحافظة ، ولكن البعض يصنفه بين الليبراليين . على العكس من Tocque Ville فهو بشكل عام مصنف كليبرالي ، لكنه صنف محافظاً من قبل .M.R Kirk ومن قبل Nisbet .M.R

وإن Hayek .M.R اعتبر من قبل بعض الجامعيين الأوروبيين ليبرالياً ، وغالباً ما وضع في مخيم المحافظين في الولايات المتحدة ، رغم أنه هو نفسه ، أخذ قلمه ليكتب الى زملائه في ما وراء الأطلسي ، لماذا لا يعتبر نفسه محافظاً ؟

إن ثقل الاستعمال الشائع كما سنراه ، قد جاء من الأثقال التقليدية التي تشق اختلافاً محسوساً ما بين التحليلات الأوروبية والأمريكية للمحافظة ، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالفترة المعاصرة ، ضمن هذه الظروف ، فليس ما يثير الدهشة ، بأن البعض قد طرح المناقشة حول فائدة ومشروعية المفهوم .

إذن السؤال المطروح هو هل المحافظة موجودة ؟ وإذا كانت كذلك فضمن أي معنى ؟

إن الاختلافات الأكاديمية قد بينت التعقيدات القصوى لتاريخ الأفكار ، فلم ينتج عن ذلك أن هذا المفهوم يجب ان يجرد من دلالته . ( فالمحافظة ، اذا لم يكن من السهل تحديدها بدقة فهذه بالضبط حقيقة تاريخية . فالمفهوم نافع ومشروع لأنه على عكس تقسيم الحقيقة بشكل مصطنع ، إنه يأخذ بالحسبان بأن أي تيار فكري أو سياسي بالرغم من تنوع اختلافاته له وحدته واستقلاله العقائدي . وبتعبير آخر فإن المفهوم يسمح بالتمييز بين عائلة فكرية ، محددة تاريخياً ومكاناً ، فهو من حيث الجوهر ينقسم بوضوح بين العائلة الليبرالية والعائلة الاشتراكية .

من الواضح أن هذا التكييف والتمييز هو تبسيطي ، فإنه يلغي الاختلافات ويمحو الحالات الوسيطة وغير الأكيدة . ولكن بين المفكرين الذين يدعون ( محافظين ) أن درجة التقارب بينهم لا تعني وضعهم ضمن نفس الفئة .

فما هو التعريف اذن ؟

ان الاقتراحات السابقة تمنع من تعريف المحافظة ، لمجرد القلق واللبس في وضعها وحالتها . ولكن مسارها يعطينا الخصائص التالية :

۱ - ربطها بالوضع الراهن ، و الخوف من التغيير ) .

۲ - والمحافظة تكون صالحة لكل الأزمنة مهما أخذت أو ستأخذ اشكالاً متعددة .

هكذا يكون المفهوم مطبقاً على روما القديمة كما على روسيا السوفييتية ، وفيما يتعلق بالمحافظة فهي من طبيعة مختلفة جذرياً ، حسب الآفاق التي هي موجودة تاريخ الأفكار السياسية ] وبالتالي يكون المفهوم غير خاضع للتحليل .

لكن التعريف المقترح ، المستنبط من التاريخ هو : ان المحافظة هي حركة ثقافية ( وسياسية ) للعصر الحديث الذي ولدت فيه ومعه ، ومن ثم اصبحت ضده . فالعقيدة المحافظية تكون قد نشأت من اجل الدفاع عن النظام السياسي والاجتماعي التقليدي للأمم الأوروبية . فالمحافظة الصافية هي إذن و التقليدية ) .

فضمن النطاق الذي يبقى فيه أحد فروعها مخلصاً

لقيم : المحافظة ، وينفصل حسب مجرى التاريخ عن التقليد السابق الى الحداثة ، ولنمط التاريخ الذي يجسده . وهكذا يمكن الحديث اذن عن محافظة جديدة .

هذا التعريف يجب ان يكون بلا شك واضحاً ظاهراً [ فيوجد أنواع من المحافظة ] لها ما يبررها . والتحليل الذي يتبع يبذل جهداً لرسم التاريخ الثقافي ، كذلك التاريخ السياسي للمحافظة حيث إن الواحدة لا تنفصل عن الأخرى . هذا المنحى التاريخي استدعته الحقيقة نفسها . فالفكرة المحافظة هي ذات جذور داخل التاريخ .

نستطيع القول ان عقيدة المحافظة هي بنت الأحداث . فقد ولدت كرد فعل ضد الثورة الفرنسية ، هذا الحدث العظيم الذي بدا الى Burke وخلفائه بأنه تمزيق النسيج التاريخ الأوروبي . فكانت اول كتابات المحافظين هي كتابات ظروف ، وكانت نصوصهم ذات طابع قتالي لصالح الذين يتمتعون في السابق بالسلطة التقليدية غير المنقطعة والتي كنستها العاصفة الثورية .

إن عقيدة المحافظة قد ولدت على أساس أنها مضادة للثورة . هذا التكييف يجب ان يكون مفهوماً جذرياً في وجه من الوجوه : فالمحافظون لا يدينون فقط الممارسة الثورية ، إنهم يرفضون منذ الأصل المبادىء التي تنادي بها ، ويحكمون عليها بأنها معاكسة للطبيعة الاجتماعية للإنسان وللأخلاق ايضاً . وفكر المحافظة يناقض بالتالي عصر التنوير ، وحقوق الإنسان ، وبشكل أعم المشروع السياسي الحديث . وإذا كان Burke يخشى على التاريخ ويعمل من نفسه حاملاً راية الدفاع والإنقاذ لتراث التاريخ ، فهذا بسبب شعوره المتطرف لنهاية عالم تحكمه القيم العزيزة عليه . فببلاغة قوية كان لصداها احياناً نبرة خائبة ،

يهاجم السياسة الايديولوجية للثوريين الفرنسيين ، كذلك يطرح أول تأمل عميق حول ماذا ستكون عليه التوجهات المسيطرة للفكر الاجتماعي والسياسي للقرن التاسع عشر : أي التناقض بين النظام

الاجتماعي - التقليدي والنظام الاجتماعي الحديث .

ان اللحظة المضادة للثورة هي اللحظة التقريرية في التاريخ المحافظي ، ففيها أعدت وثبتت التوجهات العميقة للعقيدة ، وأيضاً تلك التوجهات تتضمن مؤشرات ظروف ولادتها . ان تاريخ المحافظة بعد الثورة هو في جوهره تاريخ مرونة الفكرة المعادية للثورة . ويجب ان يضاف الى ذلك بالتالي ان التاريخ له وجوه متعددة حسبما يتعلق الأمر بالمحافظة السياسية او المحافظة الاجتماعية .

الأول : هو في مداه الواسع خاضع الى الحالات التاريخية والتقليد القومي ، حتى اذا كان في كل الحالات معاد للحداثة وللديمقراطية .

الثاني : يطرح جبهة معارضة أكثر اتحاداً لمواجهة التطور الذي لا يؤدي إلا إلى إعطاء الناطقين باسمها مواضيع جديدة للإدانة : الثورة الصناعية ، تنظيم المدن ، حضارة الجماهير .

في كلتا الحالتين نجد ان عقدة المحافظة تبقى في نقدها المضاد للثورة وللحداثة بالإخلاص أو الاعتقاد التقليدي ، ومصيرها عدم القدرة على تعطيل الزوال التدريجي للنظام التقليدي ، فالمحافظون مارسوا تأثيراً ثقافياً مهماً في القرن التاسع عشر وفق المعطيات التي أثروا بها على التطور التدريجي ، إنهم لم يعملوا إلا الى ايقافه . يدعي المحافظون بأنهم ينتسبون الى التاريخ ولكن التاريخ يخطىء ادعاءاتهم .

اللحظة المضادة للثوره

على خلاف الليبراليين الذين اجتهدوا على امتداد القرن التاسع عشر لفرز الحب من الزؤان ، في داخل الحركة الثورية ، بمعنى آخر التمييز بين الروح الليبرالية عن الروح الجاكوبية Jacobin ، فقد أدان المحافظون الثورة الفرنسية برمتها .

وقد وجد الحكم الكلي بالإدانة منذ ۱۷۹۰ عند Burke في تأملات حول الثورة الفرنسية ، المشهورة وأعيدت وتممت من قبل خلفائه . فهم يرون أن :

الثورة الفرنسية هي ظاهرة غريبة ، فالتاريخ في الماضي لم يعط مثلها ، إنها فاسدة في مبادئها وفي ممارساتها ، إنها بكاملها سيئة .

إن تأملات Burke هي النصوص الأساسية للفكر المحافظ . وهي أيضاً التعبير الأكثر بلاغة وبدون أي شك الأكثر قوة ، وتبقى النصوص المرجع الأمثل للتقليد المحافظي . ينجم عن ذلك بالتالي ، بأن الفكر المضاد للثورة هو كل متجانس . فإن Maistre Bonald المعادي للثورة يأخذ عن Burke حكمه المعادي ، ويأخذ كذلك جزءاً من حيثياته ، ولكن من جهة أخرى له تقليد وطني مميز وتوجهات خاصة به . فهو يتمسك بالأصل التاريخي ، الذي يوجد ويميز في نفس الوقت بين المحافظة بلون انكليزي والمحافظة بلون فرنسي .

تعليقات